تشكّل الاختلافات الثقافية حواجز كبيرة أمام التجارة الدولية، ويتّفق الاقتصاديون بشكل عام على أنه كلما اتسعت الفجوة الثقافية بين بلدين - من خلال الاختلافات في اللغة والعادات والقيم والأعراف التجارية - كلما أصبح إنشاء العلاقات التجارية أكثر صعوبة وتكلفة.
وتتطلّب هذه الاختلافات الثقافية جهوداً إضافية لسد الفجوات، مثل برامج التبادل الثقافي، والاتفاقيات التجارية الثنائية، والمعارض التجارية الدولية، التي تعزز التفاهم المتبادل وتسهل المفاوضات التجارية الأكثر سلاسة.
ومع ذلك، تبرز الصين كاستثناء كبير لهذه القاعدة.
كشفت دراسة شاملة فحصت تجارة الصين مع ما يقرب من 90 دولة على مدى 16 عاماً، أن الاختلافات الثقافية نادراً ما تؤثر في حجم الأنشطة التجارية للصين. وتعتبر هذه النتيجة فريدة من نوعها، بالنظر إلى الدور الهام الذي تلعبه العوامل الثقافية في إعاقة التجارة بين البلدان الأخرى.
وتساهم عوامل عديدة في هذه الديناميكية، الأمر الذي يجعل النّهج الذي تتبناه الصين في التعامل مع التجارة الدولية دراسة حالة مثيرة للاهتمام بالنسبة للاقتصاديين وصنّاع السياسات على حد سواء، وفق الدراسة التي نشرها موقع (TheConversation).
وتتضمّن الاستراتيجية التجارية الوطنية للصين صناعات تصديرية قوية تدعمها الدولة واستثمارات كبيرة في البنية التحتية العالمية. ويساعد هذا النهج الصين على مواءمة نفسها مع احتياجات التنمية الاقتصادية لشركائها التجاريين، وبالتالي التقليل من التأثيرات السلبية الناجمة عن الاختلافات الثقافية.
وخلافاً للعديد من البلدان التي تعتمد في المقام الأول على آليات السوق التقليدية، تستخدم الصين مزيجاً من الدبلوماسية الاقتصادية والاستثمارات الاستراتيجية لبناء العلاقات التجارية والحفاظ عليها. وقد أثبتت هذه الطريقة فعاليتها في مناطق مختلفة، بما في ذلك أفريقيا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية.
وعلى الرغم من الاختلافات الثقافية الكبيرة، أنشأت الصين شبكة تجارية تبلغ قيمتها مليارات الدولارات في جميع أنحاء أفريقيا، وتغطي الصناعات من التعدين إلى الاتصالات السلكية واللاسلكية. ويتم تسهيل مشاركة الصين في أفريقيا من خلال الاستثمارات المحلية في البنية التحتية، وتوفير التكنولوجيا بأسعار معقولة، وشروط القروض المواتية.
ولعبت قدرة الصين على تصميم استثماراتها بما يتناسب مع الاحتياجات والأهداف التنموية المحددة للدول الأفريقية دوراً حاسماً في تخفيف أثر الاختلافات الثقافية. على سبيل المثال، تقوم الشركات الصينية في كثير من الأحيان بتوظيف عمال محليين وتكييف ممارساتها التجارية لتتوافق مع العادات والتقاليد المحلية، ما يعزز الشعور بالاحترام المتبادل والتعاون.
وبالمثل، في الشرق الأوسط، حقّقت الصين تقدّماً كبيراً من خلال التوافق مع أهداف التنمية الإقليمية، مثل "رؤية 2030" في السعودية، و"مئوية 2071" في الإمارات. وتكمل مبادرة الحزام والطريق الصينية هذه الخطط طويلة الأجل من خلال توفير رأس المال اللازم وخبرة البناء لمشاريع البنية التحتية الطموحة.
ومن خلال دعم مشاريع البنية التحتية واسعة النطاق، والتي تشكّل أهميّة بالغة للتطلعات الاقتصادية لدول الشرق الأوسط، تعمل الصين بشكل فعال على تقليص الفجوة الثقافية. ويتجلى هذا النهج في العديد من المشاريع، مثل بناء الموانئ والسكك الحديدية ومنشآت الطاقة، والتي لا تعمل على تعزيز الارتباط التجاري فحسب، بل تعمل أيضاً على تعزيز العلاقات الثنائية.
على مدى العقد الماضي، نما حضور الصين في أميركا اللاتينية بشكل ملحوظ. وعلى الرغم من المسافات الجغرافية والثقافية، أصبحت الصين الشريك التجاري الأول لدول مثل البرازيل وتشيلي وبيرو. وتقوم هذه العلاقة على المعاملة بالمثل، حيث تقوم دول أميركا اللاتينية بتوريد المواد الخام والمنتجات الزراعية في مقابل الاستثمارات الصينية في قطاعات البنية التحتية والتصنيع.
وينطوي النهج العملي الذي تتبناه الصين في التعامل مع التجارة مع أميركا اللاتينية على فهم المشهد الاقتصادي والفروق الثقافية الدقيقة بين شركائها التجاريين. ومن خلال إعطاء الأولوية للمنافع المتبادلة وأهداف التنمية الطويلة الأجل، نجحت الصين في التغلب على الاختلافات الثقافية لإنشاء شبكات تجارية قوية.
توفر الممارسات التجارية في الصين حوافز اقتصادية كبيرة، بما في ذلك الوصول إلى عدد سكانها الهائل الذي يزيد على 1.4 مليار نسمة ودورها المحوري في سلاسل القيمة العالمية، وخاصة في مجال الإلكترونيات والمنسوجات والآلات. وتواجه الشركات الغربية ضغوطاً تنافسية للحفاظ على مواقعها في السوق في مواجهة النفوذ الصيني المتزايد.
إن الحجم الهائل للسوق الصينية واندماجها في سلاسل التوريد العالمية يجعلها شريكاً تجارياً جذاباً، على الرغم من الاختلافات الثقافية التي قد تكون موجودة.
ومع ذلك، فإن الممارسات التجارية في الصين لا تخلو من الانتقادات. ومن المحتمل أن يؤدي التدخل الحكومي في الممارسات التجارية إلى تقويض كفاءة السوق. وتشكل قضايا مثل النقل القسري للتكنولوجيا، وسرقة الملكية الفكرية، والحواجز التي تحول دون الوصول إلى الأسواق، مخاوف كبيرة بالنسبة للشركات الغربية.
ويمكن لهذه الممارسات أن تشوه كفاءة السوق، وتثبط الابتكار والاستثمار من جانب الشركات الأجنبية. على سبيل المثال، من المعروف أن الصين تشترط على الشركات الأجنبية نقل التكنولوجيا إلى الشركات المحلية كشرط للوصول إلى الأسواق. وقد تؤدي هذه الممارسة إلى التأثير على السوق من خلال إرغام الشركات على تقاسم التكنولوجيا المملوكة لها بدلاً من التنافس على قدم المساواة.
كما كانت سرقة الملكية الفكرية والحماية غير الكافية لحقوق الملكية الفكرية في الصين من المخاوف الرئيسة للشركات الغربية، التي تخشى أن يتم نسخ اختراعاتها وتقنياتها دون اللجوء إلى اللجوء القانوني المناسب.
تواجه الشركات الغربية أيضاً العديد من الحواجز التي تحول دون الوصول إلى الأسواق في الصين، مثل متطلبات المشاريع المشتركة، والقيود المفروضة على الملكية الأجنبية، والعقبات التنظيمية، ويمكن لهذه الحواجز أن تمنع الاستغلال الفعّال للموارد، وتحد من المنافسة والابتكار، ما يؤدي إلى سوق أقل كفاءة بشكل عام. وعلى الرغم من هذه المخاوف، تواصل الشركات الغربية التعامل مع الصين، مدفوعة بالفرص الاقتصادية الكبيرة التي توفرها السوق الصينية.
في حين تظل الاختلافات الثقافية تشكل حواجز كبيرة أمام التجارة بالنسبة لأغلب البلدان، فإن النهج الفريد الذي تبنته الصين مكنها من الإبحار عبر هذه التحديات بفعالية. ومن خلال الاستفادة من صناعات التصدير المدعومة من الدولة، والاستثمارات العالمية الاستراتيجية، والتركيز على أهداف التنمية المتبادلة، نجحت الصين في تقليل تأثير الاختلافات الثقافية على أنشطتها التجارية.