عندما يصبح منحنى العائد إيجابياً، يرى الكثيرون في ذلك إشارة واضحة إلى احتمال حدوث ركود اقتصادي، وذلك استناداً إلى التاريخ الذي يشير إلى أن هذا المؤشر كان موثوقاً في معظم الحالات السابقة. لكن السؤال الذي يطرح نفسه، حالياً، هو: هل سيكون الوضع مختلفاً هذه المرة؟
وفقاً لتقرير نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال»، أطلق المستثمرون في الولايات المتحدة صافرات إنذار، قبل عامين، عندما انعكس منحنى العائد، مما جعل عوائد السندات قصيرة الأجل تفوق عوائد السندات طويلة الأجل.
وغالباً ما يُعد هذا الانعكاس دليلاً مبكراً على الركود الاقتصادي، لكن القلق الجديد في "وول ستريت" يتمثل في عودة منحنى العائد إلى وضعه الطبيعي، حيث يخشى البعض أن يكون هذا التحول بمثابة إشارة إلى الركود، تماماً كما كان الانعكاس السابق.
من الممكن أن يشير كلا التحركين في منحنى العائد –سواء كان الانعكاس أو العودة إلى الوضع الطبيعي– إلى تباطؤ اقتصادي، لكن المفتاح لفهم هذا الوضع، وفق التقرير، يكمن في السياق الأوسع، وأهمية دور مجلس الاحتياطي الفيدرالي في هذه الديناميكية.
أفاد التقرير بأن العنصر الأساس في حركة السندات الأميركية ليس مجرد تغير منحنى العائد، بل السبب الكامن وراء هذا التغير.
ومن المتوقع أن يبدأ الاحتياطي الفيدرالي سلسلة من تخفيضات أسعار الفائدة اعتباراً من الأسبوع المقبل، وهو ما أدى إلى انخفاض سريع في عوائد السندات قصيرة الأجل. نتيجة لذلك، عاد منحنى العائد إلى وضعه الطبيعي عندما يُقَاس باستخدام الفارق بين عوائد السندات ذات أجل 10 سنوات، وسندات ذات أجل عامين.
إذا كانت هذه التخفيضات في أسعار الفائدة مجرد رد فعل لانخفاض التضخم إلى مستوى قريب من 2%، وهو الهدف الذي يسعى الاحتياطي الفيدرالي لتحقيقه، فقد يكون الاقتصاد في مسار هبوط سلس، مما يعني إمكانية تجنب الركود تماماً. ومع ذلك، تاريخياً، فإن تخفيضات أسعار الفائدة الكبيرة من قبل الاحتياطي الفيدرالي كانت عادةً تشير إلى اقتراب الركود، أو إلى أن الاقتصاد كان بالفعل في حالة ركود، على الرغم من عدم الاعتراف بذلك رسمياً في ذلك الوقت.
يوفر منحنى العائد نظرة عامة على حالة الأسواق، لكنه يفتقر إلى التفاصيل الدقيقة اللازمة لفهم الصورة الكاملة. فعندما انقلب منحنى العائد، خلال العامين الماضيين، أشار إلى أن المستثمرين توقعوا أن تكون أسعار الفائدة مرتفعة مؤقتاً من قبل الاحتياطي الفيدرالي قبل أن تنخفض مجدداً في المستقبل، لكن هذا الانعكاس لم يقدم تفسيراً واضحاً للسبب وراء هذا التوقع.
حالياً، يظهر سلوك الأسواق أن المستثمرين يتأرجحون بين تفسيرين رئيسين لتخفيضات أسعار الفائدة المحتملة. في بعض الأيام، يُعتقد أن التخفيضات ستكون نتيجة ضعف الاقتصاد، خاصةً في سوق العمل، مما سيدفع الاحتياطي الفيدرالي إلى تحفيز النمو. هذا السيناريو يعد سلبيًا للأسواق، حيث إن ضعف النمو قد يتطور إلى ركود.
في أيام أخرى، يعتقد المستثمرون أن الاحتياطي الفيدرالي قد يخفّض أسعار الفائدة بسبب انخفاض التضخم مع استقرار النمو الاقتصادي. ويعد هذا السيناريو إيجابياً للأسواق، حيث إن تكاليف الاقتراض الأرخص قد تعزز الأرباح، دون أن تؤدي إلى تباطؤ كبير في النمو.
تاريخياً، يشير رفع الاحتياطي الفيدرالي لأسعار الفائدة بشكل كبير إلى احتمالية حدوث ركود. وبالمثل، فإن سلسلة كبيرة من التخفيضات في أسعار الفائدة غالباً ما تأتي بعد الركود. وهنا تكمن المشكلة: انقلاب منحنى العائد، وعودته إلى وضعه الطبيعي، قد يشيران إلى نفس النتيجة المحتملة، وهي الركود. الأسواق، حالياً، تسعر تخفيضات تزيد على 2.5 نقطة مئوية بحلول نهاية العام المقبل، وهو تخفيض كبير دون حدوث ركود فعلي حتى الآن.
رغم المؤشرات المقلقة، هناك بعض الأمل في دروس من التاريخ حيث تمكن الاقتصاد من تجاوز الأوقات الصعبة بعد زيادات كبيرة في أسعار الفائدة. في منتصف الستينيات، ومنتصف الثمانينيات، ومنتصف التسعينيات، تجنب الاقتصاد الأميركي الركود رغم رفع الاحتياطي الفيدرالي لأسعار الفائدة بشكل ملحوظ.
وخلال منتصف الستينيات، وكذلك بشكل مؤقت في منتصف التسعينيات، انقلب منحنى العائد، لكنه لم ينقلب بعمق أو لفترة طويلة كما حدث في السنوات الأخيرة. أما في منتصف الثمانينيات، فقد شهد الاقتصاد هبوطاً سلساً، دون أن ينقلب منحنى العائد على الإطلاق، حتى مع تخفيض الاحتياطي الفيدرالي لأسعار الفائدة بشكل كبير، وهو ما يوازي التوقعات الحالية للسوق.
ليست كل منحنيات العائد متساوية، وفهم أي منها هو الأكثر أهمية يعتمد على كيفية تحليل السوق لها.
عادةً ما يراقب العديد من المستثمرين الفارق بين عوائد السندات ذات أجل عامين وعوائد السندات ذات أجل 10 سنوات. ومع ذلك، يفضل الاقتصاديون، غالباً، مقارنة الفارق بين السندات ذات أجل 3 أشهر والسندات ذات أجل 10 سنوات، لأن هذا المقياس يعد أكثر دقة في التنبؤ بتخفيضات الفائدة الوشيكة، وله سجل تاريخي أفضل في توقع الركود.
حتى الآن، يظل منحنى العائد بين العشر سنوات والثلاثة أشهر مقلوباً، مما يضيف إلى الغموض حول ما يشير إليه السوق حالياً.
علاوة على ذلك، لم تتضمن أي من الأمثلة التاريخية السابقة انعكاساً في منحنى العائد مع توقعات لتخفيضات سريعة وكبيرة في أسعار الفائدة كما هو الحال اليوم. قد يكون هذا هو المكان الذي يبالغ فيه المستثمرون في تقدير احتمالية الهبوط السلس.
العوامل، مثل: العجز المالي الكبير، والزيادة في الإنفاق الدفاعي العالمي، واحتياجات البنية التحتية للطاقة، قد تستمر في ممارسة ضغوط تصاعدية على أسعار الفائدة طويلة الأجل، مما يجعل التخفيضات الكبيرة أقل احتمالاً.
أشار التقرير إلى أنه إذا استقر التضخم بالقرب من هدف الاحتياطي الفيدرالي البالغ 2%، فإن أسعار الفائدة عند مستوى 3% قد تبقى لفترة طويلة، مما يضيف تعقيدات للمستثمرين. والسؤال الرئيس هو ما إذا كان التباطؤ الاقتصادي الحالي يشير إلى ركود كامل قادم، أم أنه مجرد عودة إلى الأوضاع الطبيعية بعد التقلبات الكبيرة التي شهدناها خلال السنوات الماضية.
حتى الآن، تُظهِر البيانات الاقتصادية حالة من الإحباط دون دلالة واضحة على أن الولايات المتحدة تمر بمرحلة ركود حالي. ولكن إذا كان الركود قادماً، فقد لا تكون تخفيضات الفائدة الكبيرة كافية لتفاديه. فقد أدت أسعار الفائدة المرتفعة بالفعل إلى تقليص الاستثمار التجاري، وزيادة الضغوط على الأسر ذات الدخل المنخفض، وصعوبة إعادة تمويل الديون الثابتة للشركات المثقلة بالديون.
من الجانب الإيجابي، أصبح الاقتصاد أقل حساسية لتغيرات أسعار الفائدة مقارنةً بالماضي، وذلك بفضل انخفاض تكلفة الدين طويل الأجل. كما استفادت الشركات من الإعانات الحكومية التي شجعتها على الاستثمار في مصانع جديدة حتى في ظل رفع الاحتياطي الفيدرالي لأسعار الفائدة. ومع ذلك، فإن تأثير تخفيضات الفائدة، إذا حدثت، قد يستغرق وقتاً طويلاً قبل أن يظهر تأثيره الكامل، مما يقلل من احتمالات حدوث انتعاش سريع.