أدى تزايد حدة الصراعات حول العالم إلى تفويت فرصة للازدهار الاقتصادي تقدر بنحو 19.1 تريليون دولار، وهو إجمالي التكلفة الاقتصادية للعنف والحروب في عام 2023 وحده، وفق أحدث مؤشر للسلام العالمي، يعادل هذا الرقم 13.5% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، أو ما يوازي 2380 دولاراً لكل فرد على هذا الكوكب، ولو تمكّن العالم من تجنّب هذه الفاتورة الباهظة عبر وقف الصراعات، لكانت الحال أفضل بكثير مما هي عليه الآن.
شكّل الإنفاق العسكري العالمي أكبر مكوّن منفرد لهذه الفاتورة الاقتصادية، إذ بلغ 8.4 تريليون دولار أو 44% من إجمالي التأثير الاقتصادي للعنف، بدفع من الزيادة الكبيرة في الإنفاق على التسلح على مدى السنوات القليلة الماضية، وفي المقابل لم تشكل جهود إرساء السلام وحفظه سوى نحو 0.6% من إجمالي ما أُنفق على التسلح، أي 49.6 مليار دولار فقط، بحسب «مؤشر السلام العالمي 2024» الصادر عن «معهد الاقتصاد والسلام»، المؤسسة الفكرية العالمية، ومقرها في سيدني بأستراليا.
«إن كنت ترغب في السلام، فلا بد أن تستعد للحرب»، مقولة شهيرة لطالما استندت إلى أهمية إظهار القوة الدفاعية وفرض توازن في القوى، بما يُبقي احتمال اندلاع الصراعات بعيداً، غير أن ذلك لا يتأتى سوى من خلال التوسّع في الإنفاق العسكري.
ولكن، على الرغم من كون الإنفاق في مجال الدفاع أمراً مهماً، ونشاطاً اقتصادياً أيضاً، فإن الاستثمار في مجالات أخرى مدنية، يمكن أن يحقق نتائج أفضل، خاصة لناحية خلق فرص العمل، وقد وجدت دراسة أجراها «معهد واتسون للشؤون الدولية والعامة» التابع لجامعة «براون» الأميركية، أن كل مليار دولار ينفق على الدفاع، يوفّر ما يقرب من 11,200 فرصة عمل جديدة، على حين أن هذا المليار بإمكانه أن يولّد 26,700 فرصة عمل في التعليم؛ أو 16,800 في الطاقة النظيفة، أو 17,200 وظيفة في قطاع الرعاية الصحية.
بعد سقوط سور برلين عام 1989 وتفكيك الاتحاد السوفياتي بعد ذلك بسنتين، استفاد العالم مما يسمى «اقتصاد السلام»، فمع نهاية الحرب الباردة، غيّرت البلدان، لأكثر من ثلاثة عقود، وجهة جزء كبير من نفقاتها الدفاعية صوب الاستثمار في الاقتصاد الإنتاجي، وإلى جانب انخفاض الإنفاق الدفاعي خلال هذه الحقبة، جرت عملية مكثفة لعولمة الاقتصاد ونقل الإنتاج إلى الصين وبقية الدول الآسيوية.
هذا التعاون متعدد الأطراف خلق منافع متبادلة، غير أن الحرب في كل من أوكرانيا وغزة، إلى جانب صراعات أخرى متفرقة، بدأت تعيد العالم إلى ما يسمى «اقتصاد الحرب»، وخلقت اندفاعاً جديداً نحو زيادة الإنفاق الدفاعي.
سجّل الإنفاق العسكري كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي العام الماضي، أكبر وتيرة زيادة سنوية منذ إطلاق «مؤشر السلام العالمي» عام 2007، إذ زادت 86 دولة إنفاقها على التسلح، القدر الأكبر من هذه الزيادة حدث نتيجة الحرب في أوكرانيا، إذ أنفقت 23 دولة أوروبية بسخاء على جيوشها في عام 2023، وتعهّدت دول أخرى بزيادة الإنفاق في السنوات المقبلة.
هذا التحول نحو «اقتصاد الحرب» له عواقب اقتصادية، فإعطاء الأولوية للإنفاق الدفاعي، يعني حتماً خفضه في بنود أخرى، في وقت تجد الدول نفسها أمام جبل من الديون السيادية يحدّ من قدرتها على الاقتراض الإضافي.
شهد السلام العالمي تدهوراً للعام الخامس توالياً، وفق «مؤشر السلام العالمي» لعام 2024، إذ شاركت 100 دولة جزئياً على الأقل في شكل من أشكال الصراع الخارجي خلال السنوات الخمس الماضية، مقارنة مع 59 دولة فقط في 2008.
في العام الماضي وحده، سجلت 97 دولة تدهوراً في مستويات السِلم، وهو أكبر عدد مسجل في عام واحد منذ إطلاق المؤشر، وكانت حرب غزة والصراع المستمر في أوكرانيا، من العوامل الرئيسة وراء هذا التدهور.
تظل أوروبا المنطقة الأكثر «سلمية» في العالم، فهي موطن لسبع دول ضمن العشر الأوائل في المؤشر، تتصدّرها آيسلندا وأيرلندا، رغم تدهور مستويات السِلم في القارة على مدى العام الماضي، أما منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فتبقى الأكثر توتراً، إذ تضم أربع دول من بين العشر الأقل سلمية في العالم، بما في ذلك السودان واليمن، الأدنى إطلاقاً ضمن «مؤشر السلام العالمي».
من ناحية أخرى، شهد العقد الماضي زيادة في كل من عدد الصراعات وعدد الوفيات المرتبطة بها، وكان عام 2022 الأول الذي تسجل فيه أكثر من 200 ألف حالة وفاة في المعارك منذ الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، وفي العام ذاته، كان هناك 56 صراعاً مندلعاً حول العالم.
تمتد الآثار السلبية للعنف لتشمل الاقتصاد الأوسع، سواء أفي الأمد القريب أم البعيد، إذ إنه يعيق الإنتاجية والنشاط الاقتصادي، ويزعزع استقرار المؤسسات، ويضعف ثقة المستثمرين، هذه الاضطرابات تنجم عنها تداعيات تستمر مدة طويلة حتى بعد انحسار الصراع، بما يشمل انخفاض نمو الناتج المحلي الإجمالي، وضعف القابلية للتنبؤ الاقتصادي، إلى جانب ارتفاع معدلات البطالة والتضخم، وتدني مستويات الاستثمار الأجنبي المباشر.
ويخلق العنف والخوف منه، اضطرابات اقتصادية كبيرة، إذ تتسبب الحوادث العنيفة في أضرار بالممتلكات وإصابات جسدية وصدمات نفسية، فضلاً عن أن الخوف من العنف يغيّر السلوك الاقتصادي، عبر تقليص شهية الاستثمار والاستهلاك.
في عام 2023، بلغ التأثير الاقتصادي للصراع المسلح على الاقتصاد العالمي ما قيمته 907.5 مليار دولار، بحسب تقرير «معهد الاقتصاد والسلام»، ويشمل ذلك التكاليف المرتبطة بالعنف الذي تسببت به البلدان والجماعات المسلحة والمنظمات الإرهابية.
أما أكبر الزيادات في التأثير الاقتصادي للعنف، فحدثت في كل من فلسطين وإسرائيل، إذ زاد التأثير الإجمالي بنسبة 63% و40% توالياً، وفي البلدان العشرة الأكثر تضرراً بالعنف، بلغ متوسط التكلفة الاقتصادية 37.4% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2023، وفقاً للتقرير.
أوكرانيا وأفغانستان وكوريا الشمالية، تكبّدت هي الأخرى أعلى تكلفة اقتصادية للعنف في عام 2023، أي ما يعادل 68.6% و53.2% و41.6% من الناتج المحلي الإجمالي توالياً.
في النهاية، يمكن القول إن الانتعاش الاقتصادي مرتبط بتحسن مستويات السِلم، ففي بيئة آمنة، يمكن إعادة توجيه الأموال المخصّصة في السابق لاحتواء العنف، نحو أنشطة أكثر إنتاجية، ما يوفر عائدات أعلى، ونمواً في الناتج المحلي الإجمالي، وازدهاراً اقتصادياً متعدد الأوجه.