logo
اقتصاد

صعود الصين في الشرق الأوسط.. هل ينتهي عصر النفوذ الأميركي؟

صعود الصين في الشرق الأوسط.. هل ينتهي عصر النفوذ الأميركي؟
المدخل الرئيسي لسوق التنين أو «دراغون مارت» في دبي، مركز التسوق الذي افتُتح عام 2004 ويضم أكثر من 3500 متجر. يُعد المركز رمزاً حياً لتطور العلاقات الاقتصادية المتينة بين الصين والدول العربيةالمصدر: المكتب الإعلامي لحكومة دبي
تاريخ النشر:26 نوفمبر 2024, 03:32 ص

تُعد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إستراتيجية بالنسبة إلى الصين، ليس فقط لوفرة مواردها، بل أيضاً بسبب موقعها المحوري في «مبادرة الحزام والطريق» التي تعد المبادرة الصينية الأكثر أهمية والأبعد مدى، والهادفة إلى تعزيز التجارة والبنية التحتية بين آسيا وأوروبا وإفريقيا عبر ممرات برية وبحرية. وبحضورها الاقتصادي البارز، بدأت بكين تبرز كقوة بديلة قادرة على منافسة واشنطن في هذا الجزء المهم من العالم، في سياقٍ يتسم بتراجع دور الأخيرة ورغبة دول المنطقة في تنويع تحالفاتها الجيوسياسية والاقتصادية.

في هذا السياق، بدأ العملاق الآسيوي تقديم نفسه بديلاً عملياً، من خلال خطاب يؤكد الحاجة إلى إنشاء نظام عالمي جديد أكثر إنصافاً، وهي رؤية تلعب فيها منطقة الشرق الأوسط دوراً مهماً.

أحدث تقارب شرق آسيا والشرق الأوسط تحولاً هادئاً في الجغرافيا السياسية، الأمر الذي تعكس تجارة الطاقة جزءاً منه، إذ تعدّ الصين واليابان وكوريا الجنوبية من بين أكبر أسواق التصدير لنفط وغاز المنطقة. ومع تحرك مركز الثقل الاقتصادي العالمي شرقاً، أصبحت العلاقات الاقتصادية بين المنطقتين أكثر عمقاً.

في حالة الصين، تجاوزت العلاقات الحدود الاقتصادية، لتشمل أيضاً الاعتبارات الاستراتيجية، فيما تعمل «مبادرة الحزام والطريق» على توسيع مروحة المصالح.

أكبر مستهلك لنفط الخليج

اتسمت علاقات الصين مع دول المنطقة في العقود الأخيرة بالنمو التدريجي في المجالين الدبلوماسي والاقتصادي، وتعزّزت مع تزايد رغبة العملاق الآسيوي في تطوير مشروعه مترامي الأطراف «الحزام والطريق»، إلى جانب التركيز الكبير على إمدادات النفط والغاز. وعلى مدى السنوات الثلاثين الماضية، ومع توسّع اقتصادها ليصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم، زاد الحضور الاقتصادي للصين بشكل ملحوظ.

تحوّلت الصين في أواخر القرن العشرين، إلى المحرك الأكبر لنمو الطلب على الطاقة في العالم. ومع استقرار الطلب في الولايات المتحدة وبدء انخفاضه في أوروبا، أسهم الانتعاش في الصين في المحافظة على نمو الطلب العالمي. وبينما أصبحت القاعدة الصناعية الصينية سريعة التوسع متعطشة للنفط، برزت منطقة الشرق الأوسط كمصدر وحيد قادر على تلبية هذه الحاجة المتزايدة.

منذ أن أصبحت مستورداً صافياً للنفط في عام 1993، لجأت الصين إلى الشرق الأوسط لسد ما يقرب من نصف احتياجاتها من الطاقة، وتحولت إلى أكبر متلقٍّ لصادرات الطاقة من دول الخليج، وإلى حد بعيد أكبر مشترٍ للنفط السعودي. فبحلول عام 2023، أصبحت السعودية ثاني أكبر مُورّد نفط للصين، بعد روسيا، بنسبة 15% من الواردات بحسب «إس آند بي غلوبال». وبينما كانت الولايات المتحدة تخفض واردات الطاقة من المنطقة بسبب طفرة الغاز الصخري المحلي، ملأت بكين الفراغ، حيث باتت السوق الصينية وحدها تستقبل خُمس صادرات المنطقة من الطاقة وفق تقرير لـ«معهد كارنيغي للشرق الأوسط». وبعدما زادت واردات الصين أضعافاً، لتتحول إلى أكبر مستورد للنفط في العالم، تشير التقديرات إلى أنها ستظل عميلاً رئيساً للمنطقة لعقود من الزمن.

تنامي العلاقات التجارية

مهدت مثل هذه العلاقات في مجال الطاقة الطريق أمام علاقات تجارية قوية ومتنوعة، وبحسب «إس آند بي غلوبال»، زادت تجارة الصين مع المنطقة بأكثر من ثلاثة أضعاف على مدى العقدين الماضيين، متجاوزة معدلات نمو التجارة الصينية مع مناطق أخرى حول العالم. وبين عامي 2009 و2023، ارتفعت واردات الصين من الشرق الأوسط بمقدار 3.7 مرة إلى 217 مليار دولار، بينما زادت صادراتها بمقدار 3.1 مرة إلى 169 مليار دولار.

تعد السعودية أكبر شريك تجاري للصين في المنطقة. وفيما ظلت حصتها من واردات الصين من الشرق الأوسط مستقرة عند نطاق 30%-35% منذ عام 2010، ارتفعت حصتها من صادرات الصين إلى المنطقة من نحو 15 قبل عقد من الزمان إلى نحو 25% في السنوات الأخيرة، وفقاً لـ«إس آند بي غلوبال».

ونظراً لأن الطفرة في التجارة السعودية-الصينية كانت مدفوعة إلى حد كبير بالنفط، فقد ارتفعت حصته ضمن واردات الصين من المملكة بشكل مطرد من الثلثين قبل 10 سنوات إلى 84% في العام الماضي.

التبادل التجاري بين الصين ودول الشرق الأوسط
التبادل التجاري بين الصين ودول الشرق الأوسط المصدر: إرم بزنس

«الحزام والطريق»

ذكر «المجلس الأطلسي»، وهو مؤسسة بحثية أميركية في مجال الشؤون الدولية، في تقرير، أن الإعلان عن «مبادرة الحزام والطريق» في عام 2013، والتي هي عبارة عن سلسلة من مشاريع البنية التحتية المصمّمة لربط الأسواق من بحر الصين الشرقي إلى البحر الأبيض المتوسط، أكّد الأهمية الاستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في طموحات الصين السياسية الدولية، باعتبار أن المنطقة تشكل ​​امتداداً للبنية التحتية من بحر الصين الشرقي إلى البحر الأبيض المتوسط.

هذا الأمر شدّد عليه المكتب الإعلامي لمجلس الدولة الصيني، والذي ذكر أن «إشراف الدول العربية على مضيق هرمز، ومضيق باب المندب، وقناة السويس، يمنح المنطقة أهمية فريدة كنقطة تقاطع لثلاث قارات (آسيا وإفريقيا وأوروبا)، وإدراك الصين لهذه الحقيقة ينعكس في جهودها لتعميق التعاون مع المنطقة في إطار مبادرة (الحزام والطريق) وزيادة الاستثمارات في دول الخليج التي تشكل حجر الزاوية لأمن الطاقة في الصين».

حتى الآن، نُفِّذَت مشاريع واستثمارات «مبادرة الحزام والطريق» في العديد من البلدان في آسيا وإفريقيا وأوروبا، وحتى في أميركا الجنوبية، كما جرى توقيع أكثر من 200 اتفاقية تعاون في إطار هذه المبادرة مع أكثر من 150 دولة و30 منظمة دولية، وفق رصد أجراه «المنتدى الاقتصادي العالمي» أواخر العام الماضي.

وبعد مرور أكثر من 10 سنوات على إطلاق المبادرة، قطعت العلاقات بين الصين ودول المنطقة، لا سيما السعودية والإمارات، شوطاً طويلاً، حيث تطورت إلى ما هو أبعد من تجارة الطاقة، لتطال مجموعة واسعة من القطاعات الجديدة.

بحلول عام 2023، كانت الصين قد أقامت شراكات استراتيجية مع 12 دولة عربية، ووقعت اتفاقيات تعاون في إطار «مبادرة الحزام والطريق» مع 21 دولة من دول المنطقة، إلى جانب جامعة الدول العربية. وانضمت 15 دولة عربية إلى «البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية» (AIIB)، و14 دولة إلى «مبادرة التعاون الصيني العربي لأمن البيانات»، بحسب ما أفاد به المكتب الإعلامي لمجلس الدولة الصيني.

266 مشروعاً تعطي المبادرة الصينية زخماً

تُوفر قاعدة بيانات «تشاينا كونكتس» (China Connects) التابعة لـ«المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية» (IISS)، ومقره لندن، نظرة عامة على استثمارات «مبادرة الحزام والطريق» الصينية في الشرق الأوسط، إذ تُظهر أن الصين تستثمر بكثافة في المنطقة من خلال 266 مشروعاً ضمن المبادرة بين عامي 2005 و2022. معظم هذه المشاريع إما قيد الإنشاء أو تم الانتهاء منها بالفعل، وهناك عدد قليل فقط من المشاريع التي تم إلغاؤها أو إيقافها، وهي علامة تُظهر أن المبادرة تكتسب زخماً في المنطقة.

أهم مشاريع «الحزام والطريق» في المنطقة العربية
أهم مشاريع «الحزام والطريق» في المنطقة العربية المصدر: إرم بزنس

وفي سياق «مبادرة الحزام والطريق»، دخلت السعودية والإمارات في شراكة مع شركات صينية لإنجاز مشاريع للموانئ والمناطق الصناعية الرئيسة، لتعزيز مكانتهما المركزية على طرق التجارة العالمية، بحسب «المركز الأوروبي للعلاقات الخارجية» (ECFR)، ومقره برلين. وتشمل هذه المشاريع، بناء محطة في ميناء خليفة في أبوظبي، إضافة إلى موانئ على ساحل البحر الأحمر في السعودية.

الطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية

تشارك الشركات الصينية أيضاً في عدد من أكبر مشاريع الطاقة المتجددة في المنطقة، مثل «مُجمّع محمد بن راشد آل مكتوم للطاقة الشمسية» في الإمارات، و«محطة بِنبان للطاقة الشمسية» في مصر، و«محطة نور ورزازات» في المغرب. كما يستحوذ «صندوق طريق الحرير» الصيني على حصة 49% في شركة «أكوا باور للطاقة المتجددة»، والتي تعمل كذراع استثماري رئيس للسعودية في مشاريع الطاقة المتجددة في العالم.

وتتعاون المملكة بشكل وثيق مع الشركات الصينية في تنويع اقتصادها، وخصوصاً في صناعة السيارات الكهربائية. في يونيو 2023، وقّعت الرياض صفقة بقيمة 5.6 مليار دولار مع شركة صناعة السيارات الكهربائية الصينية «هيومان هورايزونز» (Human Horizons) لإنشاء مشروع مشترك للبحث والتطوير والتصنيع في السعودية تحت العلامة التجارية «هاي فاي» (HiPhi). كما دخلت شركة «إينوفيت موتورز» (Enovate Motors) الصينية الناشئة للسيارات الكهربائية في مشروع مشترك مع شركة «سمو القابضة» السعودية في عام 2022، لإنشاء مصنع بقيمة 500 مليون دولار في المملكة.

تدفقات استثمارية في الاتجاهين

بشكل عام، زادت تدفقات الاستثمار في كلا الاتجاهين بسرعة في السنوات الأخيرة، فيما تبدي الصناديق السيادية الخليجية اهتماماً باستهداف السوق الصينية، حيث افتتحت «مبادلة» أحد صناديق الثروة السيادية الإماراتية مكتباً جديداً في الصين، بينما يدرس «صندوق الاستثمارات العامة» السعودي خطوة مماثلة.

لكن على الرغم من زيادة تعرض صناديق الثروة السيادية الصينية والخليجية لأسواق بعضها البعض، تظل أوروبا وأميركا المصدر الرئيس للاستثمار الأجنبي في المنطقة. كما أنهما الوجهتان الرئيستان للاستثمارات الخليجية في الخارج.

من ناحية أخرى، وبينما باتت الصين بوضوح لاعباً تجارياً رئيساً، فإنها لم تبرم بعد اتفاقية للتجارة الحرة مع أي دولة من دول المنطقة، وتظل اتفاقية التجارة الحرة بين الصين ومجلس التعاون الخليجي قيد الإعداد منذ عام 2004.

التكنولوجيا الجديدة

في السنوات الأخيرة، تطور التعاون الاقتصادي بين الصين ودول المنطقة، خصوصاً الإمارات والسعودية، إلى التركيز بشكل متزايد على البنى التحتية الرقمية والتكنولوجيات الجديدة، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي.

تشير بيانات «تشاينا كونكتس»، إلى أن الصين تستثمر بكثافة في البنية الأساسية الرقمية في المنطقة، بأكثر من 200 مشروع من مشاريع «طريق الحرير الرقمي»، أي 76% من إجمالي الاستثمارات (مقارنة بـ64 مشروعاً للبنية الأساسية التقليدية (24%). ومن المرجح أن يكون لهذه الاستثمارات تأثير كبير على اقتصادات ومجتمعات المنطقة.

وكجزء من الاستثمار الضخم في «رقمنة» اقتصاداتهما، وسعت السعودية والإمارات بسرعة تعاونهما مع شركات التكنولوجيا الصينية ومعاهد البحث. وتعاونت الإمارات والسعودية مع «هواوي» و«علي بابا» لتطوير جزء من البنية التحتية التكنولوجية، بما في ذلك شبكات الجيل الخامس، وتطبيقات المدن الذكية، وبناء مراكز البيانات الضخمة، والتجارة الإلكترونية. وفي سبتمبر 2023، أطلقت «هواوي» منطقة سحابية جديدة في الرياض، تهدف إلى دعم الخدمات الحكومية وتطبيقات الذكاء الاصطناعي. وعلاوة على ذلك، تعاونت شركة الذكاء الاصطناعي الرائدة في الإمارات «جي 42» (G42)، والتي تشارك في المشاريع التكنولوجية الأكثر استراتيجية في البلاد، بشكل وثيق مع الشركات الصينية.

نغمة المرحلة التالية

خلال القمة الصينية العربية الأولى التي عقدت في الرياض عام 2022، حدّد الرئيس الصيني شي جينبينغ «نغمة» المرحلة التالية من التعاون الاقتصادي مع منطقة الخليج، من خلال التأكيد على أهمية استخدام العملات المحلية في التجارة، وفق ما أشار إليه تقرير لـ«المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية»، وذلك ضمن جهود كسر هيمنة الدولار. منذ ذلك الحين، أُبرمت صفقة للغاز الطبيعي المسال المستورد من الإمارات باليوان في بورصة شنغهاي، بينما تدرس السعودية أيضاً استخدام العملة الصينية في تجارتها النفطية مع الصين.

من كلمة الرئيس الصيني في القمة العربية الصينية
من كلمة الرئيس الصيني في القمة العربية الصينية المصدر: إرم بزنس

علاوة على ذلك، وقّعت السعودية والإمارات اتفاقيات لمبادلة العملات مع الصين، فيما تقومان بتجربة استخدام العملات الرقمية للبنوك المركزية مع المركزي الصيني. ومن المقرر أن يتم ربط النظام المعروف باسم «بُنى» (Buna)، وهو نظام مقاصة للمدفوعات عبر الحدود تابع لصندوق النقد العربي، بنظام «يونيون باي» الصيني، ما سيسمح بتحويلات أسهل بالعملات المحلية.

بعيداً عن الدفاع.. وأبعد من الطاقة والاقتصاد

على النقيض من الوجود الأميركي في المنطقة الذي قام على الجانب العسكري والدفاعي، ركّزت الصين على المبادرات الاقتصادية والمشاركة السياسية، من خلال إدارة الصراعات والوساطة الدبلوماسية. ويعكس ذلك استراتيجية بكين في الشرق الأوسط المتمثلة في تجنب التدخل المباشر، والسعي إلى المحافظة على صورة إيجابية.

طموحات بكين في الشرق الأوسط تمتد الآن إلى ما هو أبعد من الطاقة والاقتصاد، إذ إنه ومع بدء تراجع النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط، والإحباطات الإقليمية إزاء نهج واشنطن في التعامل مع الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، كثّفت الصين مبادراتها الدبلوماسية والأمنية هناك. ورغم أنها تتحرك بحذر، تعمل بكين بثبات على تقديم نفسها لتولي دور لطالما نُسب إلى الولايات المتحدة.

بناءً على الزخم الذي أحدثته وساطة 2023 بين السعودية وإيران، أظهرت الصين مبادرة نحو التوسّط في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، مؤكدة على أهمية حل الدولتين.

أهم محطات العلاقات العربية الصينية
أهم محطات العلاقات العربية الصينية المصدر: إرم بزنس

في شهادة أمام الكونغرس الأميركي بشأن المشاركة الدبلوماسية الصينية في الشرق الأوسط وجهود تشكيل نظام عالمي جديد، ذكّر جون ألترمان، مدير برنامج الشرق الأوسط في «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» (CSIS)، ومقره واشنطن، بما قاله وزير الخارجية الهندي سوبرامانيام جايشانكار قبل سنوات عدة، إذ قال: «على مدى العقدين الماضيين، كانت الولايات المتحدة تقاتل في الشرق الأوسط، ولكنها لم تنتصر، فيما كانت الصين تنتصر، ولكن من دون أن تقاتل في الشرق الأوسط».

logo
اشترك في نشرتنا الإلكترونية
تابعونا على
جميع الحقوق محفوظة ©️ 2024 شركة إرم ميديا - Erem Media FZ LLC