يسلّط الارتفاع القياسي للذهب الضوء على التحركات الإستراتيجية التي اتخذتها البنوك المركزية في مجموعة "البريكس"، والدول المحايدة وسط حالة من عدم اليقين الجيوسياسي والاقتصادي العالمي.
تصدّر الذهب عناوين الصحف المالية لبعض الوقت، وذلك بفضل أدائه الممتاز، ومنذ أكتوبر 2023، حقق الذهب مكاسب قوية، حيث وصل إلى أعلى مستوى له على الإطلاق عند 2480 دولاراً للأونصة في 17 يوليو. وتعد هذه قفزة كبيرة من الرقم القياسي السابق البالغ 2075 دولاراً، والذي تم تسجيله، في أغسطس 2020، وسط حالة عدم اليقين الناجمة عن الجائحة، وزيادة الطلب على الملاذات الآمنة.
ونظراً للاضطرابات الجيوسياسية الأخيرة، فإن هذا الارتفاع ليس مفاجئاً، فهناك حربان نشطتان -في أوكرانيا والشرق الأوسط- من الممكن أن تتصاعدان إلى صراعات دولية أوسع نطاقاً، بحسب تقرير لموقع "جي آي إس ريبورتس" المختص بتقديم تحليلات حول الشؤون الاقتصادية العالمية.
بالإضافة إلى ذلك، جرت انتخابات مؤثرة هذا العام، ففي الهند، والمملكة المتحدة، والاتحاد الأوروبي، خسر شاغلو المناصب نفوذهم؛ وأصبح لدى المكسيك زعيم جديد يحمل نفس البرنامج اليساري، كما تقترب الانتخابات الرئاسية التي لا يمكن التنبؤ بها، في نوفمبر، في الولايات المتحدة، وأصبحت التوترات الاجتماعية، والسياسية، والانقسامات الإيديولوجية العميقة، هي القاعدة في مختلف أنحاء العالم.
وعلى الرغم من أن السيطرة التدريجية على التضخم توفّر قدراً متواضعاً من الراحة، لكن السياسة النقدية المتساهلة لا تزال احتمالاً بعيد المنال. فرغم تراجع ضغوط الأسعار عن أعلى مستوياتها التي تجاوزت 10% والتي شهدتها العديد من الاقتصادات المتقدمة، على مدى العامين الماضيين، لا تزال هناك ضغوط كبيرة على عدد لا يحصى من الأسر والشركات.
وفي هذا السياق، فإن مكاسب الذهب ليست مفاجئة على الإطلاق، فعندما يسود الشك وعدم اليقين، يتدفق المستثمرون إلى الملاذات الآمنة، ويتألق الذهب.
ومع ذلك، هناك تطور غير متوقع، فمنذ بداية العام، وحتى مع ارتفاع الأسعار من مستوى قياسي إلى آخر، أفاد العديد من تجار الذهب في أوروبا بأن مشتريات المستثمرين الأفراد تراجعت، في حين بدأ نشاط البيع في الارتفاع. وأكدت البيانات الرسمية هذه التقارير، حيث كان الطلب في قطاع التجزئة يتراجع بالفعل، في حين استمر سعر الذهب في الارتفاع.
ووفق التقرير، كان الطلب الذي يغذي هذه الارتفاعات القياسية الجديدة يأتي من البنوك المركزية، والتي اعتبرت مشترياتها محركاً رئيساً لارتفاع أسعار الذهب، وهو أمر مثير للاهتمام؛ نظراً للازدراء التاريخي الذي أظهره العديد من مسؤولي البنوك المركزية وصنَّاع السياسات تجاه المعدن الأصفر.
ووفقاً لمجلس الذهب العالمي، فإن البنوك المركزية الأكثر نشاطاً في شراء الذهب، في الربع الأول من عام 2024، هي: بنك الشعب الصيني (27 طناً)، والبنك المركزي التركي (أكثر من 30 طناً)، وبنك الاحتياطي الهندي (19 طناً)، والبنك الوطني الكازاخستاني (16 طناً).
ولا يعد توقيت هذه المشتريات أو حجمها من قبيل الصدفة، فالصين تعمل على توسيع احتياطياتها بمشتريات جديدة كل شهر، منذ أكتوبر 2022، وتوقفت مؤقتاً فقط هذا الربيع، ومن المتوقع أن تستأنف بمجرد تراجع مستويات الأسعار. ووفقاً للتقارير الرسمية، يمثل الذهب، الآن، 4.9% من إجمالي احتياطيات النقد الأجنبي للصين، ارتفاعاً من 2.3% في العام 2019.
كما زادت روسيا احتياطياتها من الذهب بشكل كبير، حيث يشكل المعدن، الآن، أكثر من 29% من إجمالي احتياطيات موسكو، ارتفاعاً من 11.8%. وقبل 6 سنوات زادت أيضاً دول أخرى داخل مجال النفوذ الصيني الروسي، وحتى بعض الدول التي يُنظر إليها عموماً على أنها محايدة، جهودها في تخزين الذهب في الوقت ذاته تقريباً.
ويعد ارتفاع أسعار الذهب ردَّ فعل على تسليح الدولار الأميركي، إذ كان استخدام الدولار ضد روسيا رداً على الحرب في أوكرانيا بمثابة رسالة واضحة إلى بقية العالم، بأنه يمكن استخدام العملة الاحتياطية العالمية، كسلاح هجوم في الصراعات الجيوسياسية. ونتيجة لذلك، اختارت العديد من الدول الحد من اعتمادها للعملة الأميركية، واللجوء إلى حيادية وأمان الذهب.
وذكرت صحيفة "فايننشال تايمز"، مؤخراً، أن حصة الدولار في احتياطيات النقد الأجنبي العالمية (باستثناء الذهب) انخفضت من أكثر من 70%، في العام 2000، إلى نحو 55% في العام 2023. وبإضافة الذهب إلى هذه الحسابات، انخفضت حصة الدولار إلى أقل من النصف.
صعود وتوسع مجموعة البريكس يلعب أيضاً دوراً في هذه الظاهرة، إذ دعت المجموعة إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب، وطرحت فكرة إطلاق عملة مدعومة بالذهب. وعلى الرغم من الطبيعة الفضفاضة لتحالف البريكس مقارنة بالاتحاد الأوروبي، فإن المجموعة تضم حوالي 3.5 مليار شخص (45% من سكان العالم)، وتسيطر على 30% من مساحة اليابسة في العالم، وتمثل أكثر من 37% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
من المحتمل جداً، وفق التقرير، أن تستمر مشتريات الذهب غير الغربية. ومن المرجح أن يستمر الطلب على الذهب من أعضاء مجموعة البريكس والدول غير المتحالفة مع الولايات المتحدة في تجاوز المشتريات الغربية، مما يؤدي إلى تحويل مركز الجاذبية الجيوسياسية.
ومن الممكن على المدى الطويل أن تطيح الاقتصادات المدعومة بالذهب بالدولار الأميركي. فمع قيام المزيد من الدول بجمع الذهب، وتقليل اعتمادها على الدولار الأميركي، سيضعف النفوذ الجيوسياسي للغرب، وسيكون لدى الولايات المتحدة وسائل أقل لفرض أجندتها العالمية.
ويرى التقرير أنه من غير المحتمل التخلص الكامل من الاعتماد على الدولار في الجنوب العالمي. وقد يؤدي سيناريو الإلغاء الكامل للدولار إلى تحول كبير في النظام الجيوسياسي العالمي، لكن هذا يبدو غير واقعي في المستقبل المنظور، فلا يشكل اليورو، والين، والجنيه الإسترليني، والرنمينبي، تهديدات حقيقية لهيمنة الدولار العالمية.
وبهذا، فإن الذهب هو البديل العملي الوحيد للعملة الأميركية، أما العملة المدعومة بالذهب التي دعت إليها الصين وروسيا، فتبدو غير محتملة، ولكنها ليست مستبعدة. وإذا تم اعتمادها فعلاً، فإن ذلك سيكون بمثابة بداية النهاية لعصر العملات الورقية.