وفي قلب المشهد، تظهر شركة تصنيع الرقائق الإلكترونية (SMIC)، الصينية العملاقة التي تحاول شق طريق مستقل عن التبعيات التكنولوجية الأميركية في صناعة أشباه الموصلات المزدهرة، والتي من المتوقع أن تصل إلى تريليون دولار بحلول نهاية العقد.
وفي حين أن عمليات (SMIC) قد تتخلف حالياً عن قادة الصناعة مثل "شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات" (TSMC) و"سامسونغ للإلكترونيات" وفقاً لمعايير اليوم، لكن المنشأة، التي تتخذ من منطقة جينغشنغ الصناعية الجديدة مقراً لها، تمثل قفزة جريئة نحو الاكتفاء التكنولوجي.
وتقوم الشركة الصينية بإعادة تشكيل معالجاتها، ودمج معدات أشباه الموصلات المنتجة محلياً، وتقليل الاعتماد على التكنولوجيا الأميركية، لإبعاد نفسها عن العقوبات الأميركية المحتملة، وهو تكتيك تكنولوجي ضمن التنافس المتصاعد بين أكبر اقتصادين في العالم.
تشكل هذه المبادرة عنصراً حاسماً في أجندة الصين الأوسع، والتي يطلق عليها اسم (Delete A) أو (Decouple from A). وعلى الرغم من قيود التصدير المستهدفة التي فرضتها إدارة بايدن والدول الحليفة مثل اليابان وهولندا، والتي أدت إلى تقويض قدرة الصين على تصنيع الرقائق المتطورة، إلا أن هذه التدابير كانت بمثابة دعوة حاشدة لتشهد صناعة أشباه الموصلات في الصين طفرة في الاستثمار والابتكار، ما يضعها كمنافس هائل في سباق الرقائق العالمي.
ووفقاً لبيانات الصناعة، فإن مشتريات الصين من معدات أشباه الموصلات تحدت الاتجاهات العالمية، لتمثل ثلث المبيعات العالمية، في العام 2023، وفقاً لاتحاد الصناعة (SEMI). وهذا العام، تستعد البلاد للتفوق على بقية الدول مجتمعة في القدرة الإنتاجية الجديدة لأشباه الموصلات، خاصة في مجال صناعة الرقائق المتطورة، وفقاً لتقدير شركة التحليلات "غافيكال ريسيرش". وفي مايو، أنشأت الصين جولة ثالثة من صندوقها الوطني لأشباه الموصلات بقيمة 48 مليار دولار، لتضاف إلى الدورتين السابقتين اللتين بلغ مجموعهما نحو 50 مليار دولار.
وعلى الرغم من أن تطلعات (SMIC) نحو الاكتفاء التكنولوجي لا تزال طموحة، إلا أن خط الإنتاج لا يزال يضم بعض المكونات الأميركية إضافة إلى معدات أخرى من خارج الصين. ويحذّر خبراء الصناعة من أن أمام الصين مسافة كبيرة لتقطعها للتخلص من اعتمادها على التقنيات الأجنبية، خاصة تلك اللازمة لإنتاج الرقائق المتطورة.
وحققت (SMIC) خطوات كبيرة نحو دخول التسويق، إذ تمثل منشأة جينغشنغ، المجهزة لإنتاج رقائق متطورة مثل "28 نانومتر"، خطوة محورية نحو تقليل الاعتماد على التقنيات الأجنبية.
وبحسب كونراد يونغ، المدير التنفيذي السابق في (TSMC) والعضو المستقل في مجلس إدارة (SMIC) حتى العام 2021، فإنه "بمنع كل شيء، فالأمر يشبه إيقاظ الأسد النائم"، مشيراً إلى وضع صناعة الرقائق الإلكترونية في الصين. وتمثل شركة (SMIC)، التي تأسست، العام 2000، في شنغهاي، حالياً أفضل فرصة للصين لإنتاج الرقائق الأكثر تقدماً في العالم.
كما أن (SMIC)، وهي ليست مؤسسة تديرها الحكومة بشكل مباشر، لكن المستثمرين المرتبطين بالدولة بما في ذلك الصندوق الوطني لأشباه الموصلات من بين المساهمين الرئيسين. وشغل رئيسها الحالي، الذي انضم إلى مجلس الإدارة، في العام 2023، بتوصية من الصندوق الوطني لأشباه الموصلات، مناصب تنفيذية في الشركات المملوكة للدولة.
وفي العام 2017، أنشأت (SMIC) مركزاً للابتكار مجاوراً لمصنع في جنوب بكين، حيث تُجري أبحاثاً تتعلق بتوطين سلسلة التوريد الخاصة بالشركة، حسبما قال مطلعون على المشروع.
وتمت إضافة (SMIC) إلى القائمة السوداء للصادرات الأميركية، في ديسمبر 2020، بسبب صلاتها المزعومة بالجيش الصيني، ما يعني أن الشركات التي تمتلك تكنولوجيا أميركية المنشأ عليها الحصول على موافقة واشنطن لبيع الأدوات أو المعدات أو الأجزاء إلى (SMIC) التي يمكن أن تساعد في صناعة الرقائق الأكثر تقدماً، وقد نفت (SMIC) أي علاقة لها بالجيش الصيني.
ومنذ ذلك الحين، قامت (SMIC) بتسريع جهودها لتحقيق الاكتفاء الذاتي. ويؤكد مشروع جينغشنغ، الذي يفضله الموردون الصينيون، كيف تحولت جهود (SMIC) من البحث إلى الاقتراب من التسويق التجاري بعد وضعها على القائمة السوداء الأميركية.
وتشمل الأدوات المحلية المستخدمة في خط الإنتاج تلك التي تصنعها شركات تصنيع معدات شبه الموصلات الرائدة في الصين، مثل: "ناورا تكنولوجي غروب"، و"أدفانسد مايكرو – فابريكشين إيكوبمنت"، وشركة "إيه سي إم ريسيرش" في شنغهاي، بحسب ما ذكره شخص ملم بالموضوع.
ولا يمكن تحديد الاستخدام النهائي للرقائق المصنوعة في مصنع جينغشنغ. لكن بشكل عام، تُستخدم الرقائق التي يبلغ حجمها حوالي 28 نانومتر على نطاق واسع في الأجهزة المنزلية والسيارات، وهي بعيدة بعدة أجيال عن التقنيات المتطورة في الهواتف الذكية الجديدة فضلاً عن تلك اللازمة لتدريب نماذج اللغات الكبيرة التي تقود الذكاء الاصطناعي التوليدي.
وتلقت (SMIC) مبلغ 1.8 مليار دولار كمنحة حكومية مباشرة العام 2017، وفقاً لمزود البيانات (Wind)، وتقوم حاليًا بتوسيع الطاقة الإنتاجية للرقائق القديمة.
قبل القيود الأميركية، كان لدى صانعي الرقائق الصينيين إمكانية وصول واسعة النطاق إلى الأدوات والتقنيات الأجنبية، مع إعطاء الأولوية للكفاءة على العمل كقاعدة اختبار للشركات المحلية. ومع ذلك، بعد العقوبات، اضطروا إلى اللجوء إلى البدائل المحلية في بعض المجالات. وحتى عند تقديم الخيارات لهم، فإنهم يركزون، الآن، على تأمين خيارات النسخ الاحتياطي، وفقاً لخبراء الصناعة. وبهذا، يصبح الطريق نحو الاكتفاء الذاتي صعباً بشكل متزايد مع تقدم تكنولوجيا الرقائق.
ولكي تتمكن الصين من توطين صناعة أشباه الموصلات بشكل حقيقي، فإنها لا تحتاج إلى معدات محلية لتصنيع الرقائق فحسب، بل تحتاج أيضاً إلى التأكد من أن المكونات داخل هذه المعدات يتم إنتاجها محلياً. بالإضافة إلى ذلك، يعد الإنتاج المحلي للرقائق ومواد الرقائق الأخرى أمراً ضرورياً.
وتسلط التطورات والتحديات الأخيرة في صناعة أشباه الموصلات في الصين الضوء على الإنجازات المهمة. على سبيل المثال، أصدرت شركة "هواوي تكنولوجيز" هاتفها الذكي (Mate 60) العام الماضي، والذي يتميز بنظام شريحة تم تصنيعها باستخدام تقنيات (SMIC) المماثلة لعملية إنتاج 7 نانومتر، وفقاً لتحليل شركة (TechInsights)، وهي شركة أبحاث صناعية.
ولم تؤكد شركة "هواوي" ولا (SMIC) من قام بتصنيع الشريحة المتقدمة في هاتف (Mate 60)، لكن ينظر إلى ذلك على أنه إنجاز كبير لأنها وغيرها من شركات تصنيع الرقائق الصينية لا تستطيع الوصول إلى آلات الطباعة الحجرية التي تصنعها شركة (ASML Holding) ومقرها هولندا، مما يشكل عقبة كبيرة أمام صانعي الرقائق الصينيين، بسبب القيود التي فرضتها هولندا على مثل هذه المبيعات للصين.
ويعتقد مهندسو تصنيع الرقائق الإلكترونية الذين يمتلكون خبرة واسعة أن شركة "هواوي" وشركاءها قد يكونوا قادرين على تصنيع الرقائق باستخدام عملية تعرض السيليكون للضوء - مراراً وتكراراً- بدلاً من مرة واحدة، ولكن ذلك قد يؤدي إلى تقليل نسبة الإنتاج وزيادة التكاليف. ويبين المهندسون أن هذه التقنية ستصبح أكثر صعوبة، وأقل كفاءة في مستويات تقدم صناعة الرقائق الإلكترونية أكثر تطوراً.
وليس لدى الصين بديل محلي لإنتاج آلات الطباعة الحجرية المتطورة، لذا فإن أفضل خيار محلي في البلاد هو مجموعة شنغهاي لمعدات الإلكترونيات الدقيقة، التي يظهر موقعها على الإنترنت أنها تصنع آلات الطباعة الحجرية لإنتاج رقائق متقدمة يصل حجمها إلى "90 نانومتر"، أما على الصعيد العالمي، فقد تم تقديم هذه التكنولوجيا منذ أكثر من 20 عاماً.
وحفّز تشديد ضوابط التصدير من قبل الولايات المتحدة وحلفائها على إنشاء العديد من الشركات المحلية في الصين لسد الفجوات التكنولوجية. واشتدت المنافسة في هذا القطاع إلى حد أن بعض الشركات تقدم صفقات مغرية مثل "اشتر واحدة واحصل على الثانية مجاناً" لبعض أدوات صنع الرقائق. وفي الفعاليات الصناعية مثل "Semicon" لأدوات الرقائق التي أقيمت في شنغهاي في شهر مارس، قدم العارضون حلولهم المطورة محلياً، مع التركيز على المستوى العالي من التوطين.
وفي الوقت نفسه، تقوم الشركات الصينية بتخزين المعدات الأجنبية التي لم تتأثر بالقيود التي تفرضها إدارة بايدن أو الحكومات الأخرى. وقد استمدت شركات مثل "ابلايد ماتيريالز" و"لام ريسيرش" خمسي إجمالي إيراداتها من الصين في الربع الأخير من العام الماضي.
وبالمثل، جاء حوالي نصف مبيعات نظام الطباعة الحجرية لشركة (ASML) في الربع الأول من العام من الصين.