انتقلت موجة الذكاء الاصطناعي إلى قطاع الرعاية الصحية الحديثة، الذي يشهد تأثيراً غير مسبوق لهذه التكنولوجيا، ومع تطور التقنيات وتكامل البيانات الصحية الضخمة، يمضي الذكاء الاصطناعي نحو تحسين الوقاية من الأمراض والتشخيص والعلاج، إلى جانب إحداث ثورة في الأبحاث الطبية.
عالمياً، تتسارع وتيرة الابتكار ضمن مجال الرعاية الصحية، صوب تحوّل جديد قادم من خلال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في مجال ظل تقليدياً للغاية في طريقة عمله، كما يقول البراء الخاني، النائب الأول للرئيس للعمليات في مجموعة «إم 42» (M42) الإماراتية، التي تعد أكبر شركة للرعاية الصحية في الشرق الأوسط.
وفي ظل امتلاكها نظام رعاية صحية متقدماً، تتبنى الإمارات أحدث التوجهات العالمية في المجال، مع التركيز على التطوير والنمو المستمرين عبر دمج الابتكار والتكنولوجيا في كل مرحلة، وهو ما يسهله توفر البنية التحتية الأساسية. ويشكل توظيف الذكاء الاصطناعي في مجال الرعاية الصحية في الإمارات، محاولة للمساهمة في الجهود العالمية لتحسين جودة الحياة.
قال الخاني في حديث إلى «إرم بزنس» على هامش معرض «جيتكس» العالمي 2024 الذي انطلقت فعالياته في دبي الاثنين، إن «ما يحدثه استخدام الذكاء الاصطناعي الآن في مجال الرعاية الصحية يضعنا حقاً أمام نموذج جديد. فتاريخياً، كانت جهود القطاع تنصب على علاج الأمراض، سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات، لكن في الوقت الحالي ومن خلال الذكاء الاصطناعي والكم الهائل من البيانات التي يمكننا جمعها وجلبها إلى مكان واحد لاستخلاص الأفكار منها، يتم إحداث تأثير كبير على ثلاثة محاور هي: الوقاية والتنبؤ والدقة؛ أي منع المرض من الحدوث والتنبؤ به قبل حدوثه وإدارته بدقة».
حتى الآن، أثبت الذكاء الاصطناعي فعالية عالية في الكشف عن بعض الأمراض والوقاية منها، ما أدى إلى تحسين نوعية الحياة بشكل كبير.
في هذا الإطار أوضح الخاني أن الأمراض تأتي في شكلين رئيسين: الأول، أن ترثها من والديك اللذين قد يؤدي أي اضطراب وراثي لديهما إلى إصابتك بمرض ما عندما تجتمع بياناتهما الوراثية. والثاني، أن تكتسبها من البيئة المحيطة بمرور الوقت، وهو ما يطلق عليه علم الوراثة «فوق الجينية» ، حيث تؤثر البيئة على الإنسان فتخلق مرضاً محتملاً، سواء أكان سرطاناً أم أمراضاً أخرى مثل السمنة التي تسبب مرض السكري من النوع الثاني، وغير ذلك.
وأضاف: «إذا تمكنا من استخدام النمذجة التنبؤية من خلال الذكاء الاصطناعي، سنكون قادرين على فهم ما إذا كنت ستصاب بمرض وراثي، وكيف يمكننا معالجته. على سبيل المثال، يتم تنفيذ فحص ما قبل الزواج في إمارة أبوظبي اليوم من خلال دائرة الصحة، والذي يحول الآن دون حدوث الأمراض الوراثية من خلال تثقيف الزوجين حول مخاطر هذا الزواج».
من ناحية أخرى، يمكن باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي معرفة ما إذا كان الأشخاص الذين يعيشون في بيئة معينة ويحملون نوعاً معيناً من التركيبة الجينية أو لديهم تاريخ طبي محدّد، أكثر عرضة للإصابة بأنواع من السرطان أو أمراض أخرى، ما يتيح للنظام البيئي للرعاية الصحية إدارة ذلك بشكل استباقي، بحسب النائب الأول للرئيس للعمليات في «إم 42» (M42).
وتابع قائلاً: «لهذا فائدة صحية تعود على الفرد لأننا نكون قادرين على تقليل خطر الإصابة بالمرض. كما من شأنه تقليص الإنفاق على الرعاية الصحية الذي يتزايد بشكل كبير مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي للدول وبالعديد من المؤشرات المالية الأخرى؛ فأصبح يتعين علينا إيجاد طريقة أكثر استدامة لعلاج السكان، وهي إدارة المرض والوقاية منه قبل حدوثه. والطريقة الوحيدة التي يمكننا من خلالها القيام بذلك هي استخدام أدوات التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي».
كل جينوم بشري يتكون من 3.2 مليار نقطة بيانات، غير أن متخصّصي الطب السريري لم يتمكّنوا من فهم سوى 5 إلى 6% منه، وهذا يعني، وفقاً للخاني، أن ثمة الكثير مما يتعين علينا اكتشافه.
وقال: «السبب وراء فهمنا لهذه النسبة الضئيلة بعد 3 إلى 4 عقود من الاكتشافات العلمية، يعود إلى الكم الهائل من المعلومات التي من دون الذكاء الاصطناعي سيستغرق الأمر قروناً لفهمها. أما الآن، فبات بالإمكان فهم 3.2 مليار نقطة بيانات لكل فرد بشري، ما يسمح بتطوير رؤى أسرع بكثير»، مضيفاً أنه في المستقبل القريب وباستخدام الأدوات التي لدينا اليوم وتلك التي سنحصل عليها قريباً، يمكننا اكتشاف المزيد، وسنتمكن من الفهم السريع للأمراض ولخصوصية مجتمعاتنا من خلال الجينوم.
يمنح الحصول على جينوم إنسان معين القدرة على فهم كيف سيؤثر الدواء عليه وراثياً، وكيف سيتفاعل معه ويستوعبه، أي ما يعرف بـ«استقلاب الدواء»، بحسب ما أوضحه النائب الأول للرئيس للعمليات في «إم 42» (M42)، الذي أكد الحاجة إلى فهم أفضل لجينومنا حتى نتمكن من علاج مجتمعاتنا بشكل أكثر دقة، وهو ما يتيحه برنامج «الجينوم الإماراتي» الذي من خلال تنفيذه كبرنامج خاص، يتم الحصول على معلومات تمكن من منح المجتمع الإماراتي دواءه المخصّص وتقريره الدوائي الجيني وتشخيصاته التي لم تكن متاحة تاريخياً.
من جهة أخرى، لفت إلى أن إنتاج الجينوم باستخدام الذكاء الاصطناعي يكلّف مئات الدولارات فقط، بعدما كنا بحاجة إلى مئات الملايين في السابق.
أدت التحديات التي خلقتها جائحة كوفيد-19 إلى الدفع نحو اختبار تقنيات جديدة في مجال الرعاية الصحية. في أبوظبي تعتمد «إم 42» (M42) على برنامج مراقبة يستخدم الذكاء الاصطناعي يدعى «راصد» (RASID)، يقوم باختبار عينات مياه الصرف الصحي بشكل يومي في مختلف أنحاء الإمارة. وتقوم الفكرة وراء ذلك على أن «كل ما يستهلكه الإنسان أو يؤثر عليه يمر عبره».
يشرح النائب الأول للرئيس للعمليات في «إم 42» (M42)، أنه من خلال كل المعلومات التي يتم جمعها من مياه الصرف الصحي على أساس يومي، يمكن التنبؤ بواسطة الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي بانتشار الأوبئة قبل حدوثها، ما يمنح نظام تنبيه أكثر فعالية، ولهذا السبب أطلق عليه اسم «راصد».
وفيما كان اكتشاف الأدوية واللقاحات أحد أطول مراحل تطويرها وأعلاها تكلفة، بات بإمكان الذكاء الاصطناعي أن يساعد اليوم في تقليص المدة والتكاليف.
قال الخاني: «نبهتنا جائحة كورونا إلى الحاجة إلى تسريع التجارب السريرية المتعلقة باكتشاف الأدوية واللقاحات، وهو ما يساعدنا فيه الذكاء الاصطناعي».
وأردف قائلاً: «تاريخياً، كان العلماء يستغرقون سنوات عدة للقيام بالتجارب السريرية، من المرحلة الأولى إلى الثانية ومن ثم الثالثة، حتى يتم تصنيع اللقاح. الآن، باستخدام الذكاء الاصطناعي، يمكننا تسريع كل عملية على حدة لأننا نستطيع محاكاة جميع الأنشطة المخبرية، بدلاً من الاضطرار إلى القيام بها فعلياً».
وأضاف: «لذا يمكننا أن نكتشف بسرعة فائقة ما إذا كان هذا الدواء فعالاً على البشر قبل تجربته عليهم؛ ويتيح لنا ذلك معرفة أي علاجات من المرجح أن تفشل وأيها قد ينجح، حيث تسمح المحاكاة بالانتقال بسرعة من مرحلة إلى أخرى، وبالتالي تسريع اكتشاف العلاجات وجلب الأدوية واللقاحات إلى السوق بشكل أسرع بكثير مما كان عليه الحال في السابق».
أكد النائب الأول للرئيس للعمليات في «إم 42» (M42) على سعيهم إلى مواصلة الدفع بالابتكار في مجال الرعاية الصحية لتحسين النتائج، وقال: «نحن بحاجة إلى الانتقال إلى تقديم رعاية صحية قائمة على القيمة، أي بالنظر إلى الفائدة التي يجنيها المريض من العلاج».
وأضاف: «يتطلب ذلك قدراً كبيراً من التكنولوجيا والابتكار؛ ولحسن الحظ، توفر الإمارات بيئة مزدهرة لذلك، من خلال البنية الأساسية، وأجهزة الكمبيوتر العملاقة، وقدرات الحوسبة الكمية التي نمتلكها. وكل هذا سوف يسمح لنا بتحليل تلك الكميات الكبيرة من المعلومات لإعادة الرؤى والقيمة إلى الفرد».