مع تغيّر المناخ، أصبحت السيول الجارفة والفيضانات أكثر تواتراً وشدة في العقود الأخيرة، خصوصاً في البيئات الحضرية في مناطق مختلفة من العالم. هذه الظواهر المناخية المتطرفة وغيرها، دفعت العديد من الدول إلى اتخاذ خطوات استباقية لدرء المخاطر، كما في الإمارات وسلطنة عُمان، وتحديداً في مدينتي دبي ومسقط. فما هي أبرز هذه الخطوات؟
في أبريل الماضي، لفتت مستويات الأمطار القياسية التي شهدتها دبي، النظر بشكل أكثر جدية في منطقتنا إلى مسألة التكيّف مع التغيّرات المناخية، كما سلطت الضوء على الدور الكبير لعمليات التنبؤ في رفع مستويات الاستجابة، ووضع سيناريوهات مختلفة لجميع الأزمات التي من الممكن أن تحصل في المنطقة، وهو ما تحرص عليه اليوم إمارة دبي، بحسب المقدَّم عيسى المطوع، الرئيس التنفيذي للذكاء الاصطناعي ومدير إدارة الرقابة والتفتيش في الدفاع المدني لإمارة دبي.
قال المطوع في حديث إلى «إرم بزنس» على هامش «منتدى مقاومة المناخ في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا» (MENA Climate Proof) الذي تستضيفه دبي: «نتابع عن كثب تقارير المنتدى الاقتصادي العالمي، ونراقب توقعات المخاطر قصيرة وطويلة الأجل. علينا أن نضع خططاً استباقية لكي نكون مستعدين لأي حدث قد يحصل».
تعتمد دبي منذ 4 سنوات تقريباً على التحليل التنبُّئِي (Predictive Analysis) باستخدام الذكاء الاصطناعي، والذي يتيح تحديد المناطق الأكثر خطورة. فمثلاً، يتم رصد الأماكن التي من المحتمل أن تتجمّع فيها المياه في حال هطول أمطار غزيرة، ومن خلال التنبؤ، يصبح بالإمكان توزيع المضخات بشكل مسبق.
قال المطوع: «لدينا اليوم منظومة موحدة تشمل مختلف الجهات. فإذا حدث فيضان أو أمطار غزيرة مثلاً، يكون البرنامج قد أخطرنا بذلك قبلها بسبعة أيام، الأمر الذي يمكّننا من معرفة أماكن توزّع المياه، وذلك بالتعاون مع المركز الوطني للأرصاد (NCM) وهيئة الطرق والمواصلات».
وأضاف: «نستطيع معرفة الشوارع المرتفعة من تلك المنخفضة؛ ما يسمح لنا بإعادة توجيه عمليات المرور حتى تكون أكثر سلاسة. ونستخدم الآلية كذلك في الوقاية من الحرائق، فدبي مدينة حاضنة لمختلف الفعاليات».
أشار مسؤول الدفاع المدني في دبي أيضاً إلى «الجهود الجبارة لتحديث البنية التحتية». وقال إن هناك جهات متخصّصة تتابع هذا الأمر عن كثب، خصوصاً ما يتعلق بمسألة صرف المياه، على رأسها بلدية دبي.
في يونيو الماضي، واستجابة للتحديات التي أفرزها «منخفض الهدير»، وهو المنخفض الجوي العميق والنادر الذي ضرب دبي هذا العام، أُعلن في الإمارة عن واحد من أكبر مشروعات البنية التحتية الإستراتيجية، بتكلفة إجمالية تبلغ 30 مليار درهم (8 مليارات دولار).
المشروع الذي أطلق عليه اسم «تصريف»، والذي سيُنفّذ على مراحل تنتهي في عام 2033، سيعمل على تطوير شبكة تصريف مياه الأمطار لتغطي مناطق الإمارة كافة، حيث من المنتظر أن يعزز الطاقة الاستيعابية لعمليات التصريف في دبي 700%.
أشارت دراسة حديثة أصدرها «معهد بوتسدام لأبحاث تأثير المناخ» (Potsdam Institute for Climate Impact Research)، إلى أن المدن التي تعدّ المسؤول الأول عن تغيّر المناخ، من الممكن أن تتحوّل إلى عنصر رئيس في عملية إصلاح الضرر، وذلك من خلال تغيير الطريقة التي يتم بها التخطيط والبناء والإدارة. وبحسب الدراسة، فإن هذا يمكن تحقيقه من خلال تشييد المباني الخضراء، وتوفير أنظمة نقل عام تعتمد على الطاقة النظيفة، وغيرها من الاستثمارات التي ستكون تكلفتها -وفقاً للتقديرات- أقل بكثير من الفاتورة السنوية المحتملة للتغير المناخي في جميع أنحاء العالم، والتي ستصل إلى 38 تريليون دولار بحلول عام 2050.
في منطقة الشرق الأوسط، تعد سلطنة عُمان من أكثر الدول عرضة لتبعات التغيّر المناخي. ففي السنوات الأخيرة تعرّضت العاصمة مسقط لسبعة أعاصير، لعل أقواها إعصار كان «شاهين» في عام 2021، حيث كانت لهذه الأعاصير تداعيات كبيرة على البنية التحتية، فضلاً عن التكلفة المادية والبشرية العالية، وفق ما أفاد به قاسم الحراصي، رئيس تخطيط مسقط الكبرى بوزارة الإسكان والتخطيط العمراني في سلطنة عُمان.
قال الحراصي لـ«إرم بزنس»: «تتميّز مسقط بتوسع عمراني ممتد أفقياً، لكن للأسف لم تكن طريقة التوسّع سليمة، إذ غاب عنها التخطيط الإستراتيجي».
وأضاف: «وضعنا خطة إستراتيجية عمرانية بالتكامل بين جميع الجهات من دون استثناء، وكان التحدي الأساسي وجود 14 وادياً في مسقط، ليست جميعها متصلة بالبحر. وكانت هناك عوائق وتجاوزات وسوء إدارة بهذا الخصوص. وبناء عليه تقرر أن يتم خلال العشرين سنة الأولى الاستثمار في أربعة وديان لزيادة الرقعة الخضراء، وفي الوقت ذاته، إقامة سدود في الوديان الـ14، واعتماد تقنيات للمحافظة على الممتلكات والمرافق».
هناك أيضاً خطة مدروسة لمواجهة الفيضانات الآتية من جهة البحر، بحسب الحراصي، الذي أشار إلى وجود وجهات ساحلية عدة في عُمان، بحاجة إلى الحماية بسبب تآكل الشواطئ جراء التغيّر المناخي. ومن ناحية أخرى، يتم العمل على تجاوز تحدٍّ آخر مرتبط بالمعيار الثقافي وتعزيز جاهزية ووعي الناس بوجود مشكلات لا بد من حلّها.
قال الحراصي: «كانت خطةً متكاملة من جميع الجوانب، ليس فقط في التخطيط الحضري وتفعيل منظومة النقل العام، بل شملت أيضاً النواحي المالية، وتوفير الوظائف، وإقامة مناطق للنمو الاقتصادي ومناطق صناعية».
ولفت إلى أن الدراسة التي أُجريت نتجت عنها سياسات صارمة تصب في الصالح العام، كفرض معايير وتقنيات البناء الأخضر رغم تكلفته العالية على المطورين العقاريين. وشدّد على أن «كل ذلك بات من الضروريات. فارتفاع درجات الحرارة يفرض علينا عدم الاستمرار بالنهج ذاته».
على الرغم من التكلفة القاسية للظواهر المناخية المتطرفة، فإنها «شكلت حافزاً للتخطيط السليم والبدء بطريقة أقوى من ذي قبل، والبحث عن كيفية إدارة التغيير وخطط الإنذار المبكر»، وفق ما قاله الحراصي.
يذكر أن الصيف الماضي كان الأكثر سخونة على الإطلاق على مستوى العالم، ويتوقع أن ترتفع درجات الحرارة أكثر في المستقبل، الأمر الذي دفع «المنتدى الاقتصادي العالمي» إلى التحذير في تقرير تناول سبل تغيير علاقة المدن بالطبيعة بحلول عام 2030، من كون أكثر من 70% من المناطق الحضرية الـ576 الأكبر في العالم، والتي تعد موطناً لـ1.4 مليار شخص، عرضة لخطر كبير.
ومع ارتفاع درجة حرارة الكوكب، أصبحت الظواهر الجوية المتطرفة أكثر شيوعاً، ما جعل المدن أمام حتمية التكيّف لكي تصبح قادرة على مواجهة الأحوال الجوية القاسية الناجمة عن تغيّر المناخ، وذلك من خلال وضع خطط أكثر فاعلية تُمكّنها من الاستعداد الأمثل لتبعاته.
في الوقت الحالي، يعيش أكثر من نصف سكان العالم في المناطق الحضرية، وهذا العدد مرشّح للارتفاع إلى الثلثين بحلول عام 2050، وفقاً للبنك الدولي. وبما أن المدن تسهم في 80% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، فإن إعدادها للمستقبل يعدّ أمراً حيوياً. من هنا، جاءت دعوة المنتدى الاقتصادي العالمي إلى النظر في الفرص المتاحة للعيش في توازن مع الطبيعة، وإلا، فإننا سنكون أمام المزيد من الانهيار في النظم البيئية.