logo
اقتصاد

الخاسرون اقتصادياً في النظام العالمي الجديد

الخاسرون اقتصادياً في النظام العالمي الجديد
تاريخ النشر:14 أغسطس 2023, 01:05 م
تقدم أكبر الاقتصادات في العالم إعانات ضخمة في سباق محموم للفوز بالصناعات المستقبلية، أما الخاسرون فهم: كل الدول التي لا تستطيع الدفع.
وتجذب الإعفاءات الضريبية الجديدة لتصنيع البطاريات ومعدات الطاقة الشمسية وغيرها من التقنيات الخضراء، تدفق رأس المال إلى الولايات المتحدة، كما يحاول الاتحاد الأوروبي أيضاً الاستجابة بحزم دعم الطاقة الخضراء الخاصة به. وأعلنت اليابان عن خطط لاقتراض 150 مليار دولار لتمويل موجة من الاستثمار في التكنولوجيا الخضراء، وتعمل جميع هذه الدول لتصبح أقل اعتماداً على الصين، التي تتمتع بريادة وقدرة كبيرة في مجالات كثيرة، بما في ذلك مجالات تصنيع البطاريات والمعادن.

ولكن الآن، يتقهقر بعض اللاعبين الصغار خلف الكبار في هذا السباق، وكانت العديد من الاقتصادات الذكية في حالة صعود خلال عقود من التجارة الحرة، لكنها أصبحت في وضع غير موات في حقبة جديدة من السياسة الصناعية العدوانية أو الأكثر حمائية، كما تفتقر الدول الصناعية مثل المملكة المتحدة وسنغافورة إلى الحجم للتنافس ضد أكبر التكتلات الاقتصادية في تقديم الإعانات، أما الأسواق الناشئة مثل إندونيسيا، التي كانت تأمل في استخدام مواردها الطبيعية لتسلق السلم الاقتصادي، فأصبحت مهددة أيضاً نتيجة هذا التحول.

وعلى سبيل المثال، حصلت إنتل على 11 مليار دولار كدعم من الحكومة الألمانية لبناء مصنعين لأشباه الموصلات، فيما وصفه رئيس الوزراء أولاف شولتز بأنه أكبر استثمار أجنبي مباشر في تاريخ ألمانيا، ويعد التمويل الحكومي أكثر بكثير من الميزانية السنوية لوزارة التجارة والصناعة السنغافورية.

وقال نائب رئيس الوزراء السينغافوري، لورانس وونغ، لمؤيديه خلال تجمع سياسي حديث: "اسمحوا لي أن أقول لكم بصراحة: لا نملك القدرة للمزايدة على الكبار".

وبالنسبة للعديد من شركات التكنولوجيا التي نشأت في المملكة المتحدة، أصبح النمو بالنسبة لها في مكان آخر، ونجحت شركة Nexeon البريطانية الناشئة في مجال تكنولوجيا البطاريات، التي طورت تقنيتها بالقرب من أكسفورد، بمساعدة تمويل حكومي، في جمع أكثر من 200 مليون دولار العام الماضي، وسيكون أول مصنع تجاري لها في كوريا الجنوبية، ومن المحتمل أن يتبعه مصنع في أميركا الشمالية.



وقال سكوت براون، الرئيس التنفيذي لشركة Nexeon: "ليس في المملكة المتحدة، للأسف، لا ترى Nexeon أي تغيير بدون المزيد من الدعم الحكومي لصناعة البطاريات".

وقالت شركة "أمتي باور" AMTE Power، إحدى الشركات المصنعة للبطاريات المحلية القليلة في المملكة المتحدة، إنها قد تعيد التفكير في خطط مقترحة لتحديد موقع مصنع تزيد قيمته عن 200 مليون دولار في إسكتلندا، نظراً للاختلاف في الإعانات المعروضة في الولايات المتحدة وأوروبا، كما قالت شركة Arrival، وهي شركة ناشئة للسيارات الكهربائية، في العام الماضي إنها تريد تركيز تصنيعها في الولايات المتحدة بدلاً من المملكة المتحدة، مستشهدة بالإعفاءات الضريبية المقدمة هناك.

وتشهد الولايات المتحدة، التي تقدم 369 مليار دولار في شكل حوافز وتمويل للطاقة النظيفة كجزء من قانون خفض التضخم، مكاسب غير متوقعة من الاستثمار الأجنبي فيها، وبدأت شركة "بي إم دبليو" الألمانية لصناعة السيارات للتو في إنشاء مصنع جديد للبطاريات في ولاية كارولينا الجنوبية، كما أعلنت شركتا "هيونداي" و"إل جي" الكوريتان الجنوبيتان عن إنشاء مصنع للبطاريات بقيمة 4.3 مليارات دولار في ولاية جورجيا، وتقوم شركة باناسونيك اليابانية ببناء مصنع في كانساس.

تفكيك العولمة وتبني الحمائية

يمثل سباق تقديم الإعانات الحكومية خطوة في اتجاه بعيد عن التكامل الاقتصادي الذي كسر على مدى عقود الحواجز أمام التجارة والاستثمار بين البلدان.

وحولت العولمة البلدان التي كانت فقيرة مثل كوريا الجنوبية وتايوان إلى اقتصادات متقدمة عالية التقنية، وانتشلت مئات الملايين من الناس من براثن الفقر، وحصل المستهلكون الغربيون على وفرة من السلع الاستهلاكية بأسعار معقولة ومستوى معيشة أعلى، كما انتقل التقدم التكنولوجي والأفكار الإدارية الجديدة بحرية أكبر بين البلدان، إلى جانب السلع والموارد المالية.

وفي المقابل، كان للنموذج أيضاً تكاليف باهظة، فقد تم تجفيف المجمعات الاقتصادية التي كانت مزدهرة في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية نتيجة انتقال وظائف التصنيع إلى آسيا أو دول الاتحاد السوفيتي السابق، وانتشرت المخاوف البيئية مع تزايد استهلاك الاقتصاد العالمي للموارد الطبيعية، وواجهت بعض الاقتصادات نوبات مزعزعة للاستقرار تمثلت في هروب رؤوس الأموال وفي تدفق الأموال الأجنبية إلى الداخل والخارج.

ويقول الاقتصاديون إن فك هذا التكامل العالمي -سواء لأسباب تتعلق بالأمن القومي، أو التنافس الجيوسياسي، أو مخاوف سلسلة التوريد- سيكون له مشاكله الخاصة به، وعلى وجه الخصوص، الاقتصادات المعرضة للخطر هي النامية الأصغر التي تحتاج إلى الوصول إلى الأسواق العالمية في حال أرادت تحقيق رخاء أكبر.

وقال ديفيد لوفينغر، المسؤول السابق في وزارة الخزانة الأميركية والعضو المنتدب للأسواق الناشئة في شركة TCW Group لإدارة الأصول: "أصبح العالم بأكمله أكثر حمائية ويبتعد عن التجارة والاستثمار المفتوحين"، "أوروبا والولايات المتحدة والصين في منافسة للدعم، والخاسرون في تلك المنافسة هم اقتصادات أفقر ذات موارد مالية أقل".

وقد يكون تبني الغرب للسياسة الصناعية مؤلماً بشكل خاص للبلدان التي كانت تأمل في استغلال تبني التقنيات الخضراء لدفع تنميتها الاقتصادية.

وتطمح إندونيسيا إلى استثمار مواردها الوفيرة من النيكل في صناعة بطاريات رائدة على مستوى العالم، لكن القواعد الأميركية، الموضوعة كجزء من قانون خفض التضخم، ترفض الإعانات المقدمة لبطاريات السيارات الكهربائية التي تحتوي على كميات كبيرة من المعادن من دول ليست من شركاء التجارة الحرة الأميركية، وإندونيسيا من بينهم.

وقال أرجد رشيد، رئيس غرفة التجارة والصناعة الإندونيسية في مقابلة: "لدينا كل الموارد الطبيعية، لدينا الموارد البشرية، نحن دولة ديمقراطية"، "نرجو عدم إغلاق الأبواب أمامنا".

الفائزون

وكرائدة في سباق الدعم، تشهد الولايات المتحدة طفرة استثمارية، واستحوذت الولايات المتحدة على حوالي 22% من الاستثمار الأجنبي المباشر العالمي العام الماضي، مما يجعلها أكبر متلق في العالم، وفقاً لبيانات الأمم المتحدة، وهذا أقل قليلاً من نسبة 26% التي تدفقت إليها في عام 2021 عندما ارتد الاستثمار العالمي مرة أخرى بعد فترة هدوء خلال الوباء، ولكنه أعلى بكثير من 13% التي حصل عليها في عام 2019، كما ارتفع الإنفاق على البناء المتعلق بالتصنيع بنسبة 76% في مايو مقارنة مع في العام السابق، إلى معدل سنوي معدل موسمياً قدره 194 مليار دولار، وفقاً لبيانات مكتب الإحصاء.

وفي المملكة المتحدة، يؤكد تمويل Nexeon على قوة المحفظة الأميركية في تحريف ساحة اللعب، وبالإضافة إلى رأس المال الخاص الذي جمعته العام الماضي، تلقت Nexeon مليوني جنيه إسترليني، وتبلغ قيمتها حوالي 2.55 مليون دولار، من صندوق حكومي بريطاني لصناعة السيارات الكهربائية.

وبعد أسابيع، حصل منافسان أميركيان، هما Sila Nanotechnologies و Group14 Technologies، على 100 مليون دولار من وزارة الطاقة بموجب برنامج تمويل صناعة البطاريات الذي تم تقديمه في قانون البنية التحتية لعام 2021، ومثل Nexeon، تقوم هذه الشركات بصنع مواد قائمة على السيليكون لاستخدامها في أنودات البطارية لتحسين الأداء.

وفي هذا الصدد قال جاي ديبيل، النائب السابق لمحافظ البنك المركزي الأسترالي والمدير الحالي لـ Fortescue Future Industries، وحدة الطاقة الخضراء في شركة التعدين Fortescue Metals في غرب أستراليا: "اقتصاديات المشاريع في الولايات المتحدة بعيدة عن المتناول وفي عالم آخر"، وقال ديبيل إن الشركة تستكشف فرص الاستثمار وترى حالياً أن الولايات المتحدة هي الموقع الأكثر ترجيحاً بسبب الإعانات التي يمكن أن تخفض ما يصل إلى 60% من سعر المشروع.

ويعد الاتحاد الأوروبي حزمة الدعم الخاصة به، مما يؤدي إلى تخفيف القيود على الإعانات التي يمكن أن تقدمها الدول الأعضاء للصناعة، وبحلول عام 2030، يريد الاتحاد الأوروبي تصنيع 40% من التقنيات الرئيسة اللازمة للانتقال الأخضر في الكتلة، بما في ذلك المعدات الشمسية -وهو قطاع تهيمن عليه الصين حالياً- توربينات الرياح والبطاريات.

إلى ذلك، قفز خط إنتاج البطاريات في الولايات المتحدة، والذي يقيس السعة من المشاريع قيد التنفيذ، بنسبة 67% منذ الإعلان عن قانون خفض التضخم، وهو الآن يطابق حجم مثيله في أوروبا، الذي نما بنسبة 26% خلال تلك الفترة، وفقاً لتقديرات "بنشمارك مينرالز انتلجينس"، وهي شركة مقرها المملكة المتحدة تجمع بيانات الصناعة.

مشكلة بريكست

يأتي التحول في التجارة العالمية في وقت حرج بشكل خاص بالنسبة للمملكة المتحدة، التي تكافح لرسم مسار جديد في الاقتصاد العالمي بعد مغادرتها الاتحاد الأوروبي في عام 2020، مما يعني أنه لم يعد بإمكانها الوصول بسهولة إلى سوقها الموحدة العملاقة.

وقال مؤيدو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إن المملكة المتحدة يمكنها إبرام اتفاقيات تجارية ثنائية مع دول أخرى وتزيد من زخمها ضد العولمة، ومنذ ذلك الحين، توقف زخم التجارة الحرة، ويبدو الآن أنه في تراجع.

وقال غيرنوت واغنر، خبير اقتصادي مناخي في كلية كولومبيا للأعمال: "بالعودة إلى التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لم يكن لدى أي شخص أي فكرة عن أننا سنشهد عودة السياسة الصناعية في الولايات المتحدة".

والآن، تواجه حكومة المملكة المتحدة دعوات من جميع أنحاء اقتصاد البلاد للاستجابة للتحول بخطط النمو إلى الداخل في الاقتصاد العالمي من خلال استراتيجيتها الصناعية المعاد تنشيطها.

وحصل قطاع السيارات في المملكة المتحدة على دفعة مؤخراً عندما اختار مالك "جاغوار لاند روفر" بناء مصنع جديد للبطاريات الكهربائية هناك، لكن الحجم الإجمالي للإعانات الخضراء يتخلف كثيراً عن الدعم في الولايات المتحدة.

ووعد وزير المالية جيريمي هانت بالكشف عن استجابة المملكة المتحدة هذا الخريف، لكنه قلل من التوقعات، وقال إن بريطانيا "لن تدخل مع أصدقائها وحلفائها في سباق الدعم الحكومي العالمي المسبب للخلل"، وقال إن المملكة المتحدة ستتطلع إلى توجيه التمويل إلى المناطق التي تتمتع فيها بريطانيا بميزة تنافسية واضحة.

تحالفات جديدة

وقال تشاد باون، الخبير التجاري والمسؤول السابق في البنك الدولي، والمسؤول في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، وهو مركز أبحاث في واشنطن العاصمة، إن أحد الحلول للبلدان التي لا تستطيع المنافسة هو التقريب بين الشركاء التجاريين الأغنياء والاستفادة من سياساتهم الصناعية، كما فعلت كندا والمكسيك من خلال اتفاق التجارة الحرة مع الولايات المتحدة، وتشارك حكومة إندونيسيا في "الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ" الذي تقوده الولايات المتحدة، وهو اتفاق اقتصادي يأمل في تحسين وصول الأسواق إلى معادنها.

وفي العام الماضي، قال وزير الاستثمار باهليل لاداليا، إن إندونيسيا ستسعى إلى تشكيل كارتل على غرار أوبك للنيكل، وهو معدن بطاريات تهيمن إندونيسيا على إنتاجه، كرد فعل على الحمائية من قبل الدول التي تصنع المركبات الكهربائية، وستنسق منظمة على غرار أوبك مستويات إنتاج النيكل مع المصدرين الرؤساء الآخرين لضمان ارتفاع الأسعار.

ويشك المحللون في نجاح الخطة، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن منتجي النيكل الآخرين لا يريدون تنفير الشركاء التجاريين الأقوياء مثل الولايات المتحدة والصين، وطرح قادة اليسار في أميركا اللاتينية أفكاراً مماثلة لمنظمة شبيهة بمنظمة أوبك لمنتجي الليثيوم، لكن لم يتم تفعيلها.

وفرضت إندونيسيا وزيمبابوي قيوداً على تصدير المعادن مثل النيكل والبوكسيت والليثيوم، جنباً إلى جنب مع متطلبات قيام الشركات الأجنبية ببناء مرافق معالجة في البلاد كشرط للتصدير.

وقال سيمون إيفينت، أستاذ التجارة الدولية والتنمية الاقتصادية في جامعة سانت غالن في سويسرا: "لست من المعجبين بهذه السياسات، لكن من الواضح أنها تحظى بشعبية كبيرة"، "من الواضح أنها سترفع الأسعار وستزيد حالة عدم اليقين والمخاطر أيضاً".

logo
اشترك في نشرتنا الإلكترونية
تابعونا على
جميع الحقوق محفوظة ©️ 2024 شركة إرم ميديا - Erem Media FZ LLC