في تحول لافت عن سنوات طويلة من تمجيد ثقافة العمل الشاق، بدأت الصين توجه دعوات رسمية لتخفيف ساعات العمل وتشجيع الموظفين على مغادرة مكاتبهم مبكرًا، في خطوة تهدف إلى تحسين جودة حياة العاملين، وتحفيز الاستهلاك المحلي لدعم الاقتصاد.
وبعد عقود من ترسيخ نمط «العمل الإضافي القاسي»، لا سيما في قطاعات مثل التكنولوجيا والصناعة، تسعى السلطات الآن إلى إعادة تشكيل ثقافة العمل بما يعزز من النشاط في الأسواق الداخلية، ويقلل من ظاهرة الإنهاك المهني التي باتت تؤثر في الإنتاجية والاستقرار الاجتماعي.
ووفقاً لتقرير نشره موقع (The Economist)، بدأت كبرى الشركات الصينية بالفعل اتخاذ خطوات عملية عبر فرض مواعيد مغلقة لمغادرة المكاتب ومنع العمل الإضافي غير الضروري، ضمن توجه عام مدعوم حكومياً يهدف إلى مواجهة آثار «الإنهاك الداخلي»، وإعادة توازن الاقتصاد بعيداً عن الاعتماد التقليدي على التصدير والبنية التحتية.
وبرزت مبادرات واضحة من شركات رائدة مثل «ميديا» لصناعة الأجهزة المنزلية، التي طالبت موظفيها بمغادرة مقار العمل بحلول السادسة وعشرين دقيقة مساءً، مؤكدة أن أكثر من 95% من العمل الإضافي «مجرد استعراض».
كما اتخذت شركة «دي جيه آي» المتخصصة في صناعة الطائرات المسيّرة خطوة مشابهة، عبر إغلاق مكاتبها بحلول التاسعة مساءً، رغم بعض الانتقادات التي اعتبرت أن التوقيت لا يزال متأخراً.
تتماشى هذه السياسات الجديدة مع هدفين رئيسين تسعى الحكومة الصينية لتحقيقهما، أولهما، مكافحة ظاهرة «الإنهاك الداخلي» (نيجوان)، التي تؤدي إلى منافسة مرهقة دون تحسن حقيقي في الإنتاجية.
كما بدأت السلطات حملات تهدف إلى حماية حقوق العمال، لكنها تواجه تشكيكاً واسعاً من الجمهور، الذي يرى أن الشركات التي طالما فرضت ثقافة العمل الوحشي يصعب أن تصبح فجأة حاملة لواء الإصلاح.
ويرى مراقبون أن الضغوط الخارجية، مثل الحظر الأوروبي على المنتجات المرتبطة بالعمل القسري، ربما تكون دافعاً إضافياً وراء هذه التحركات.
أما الهدف الثاني، فيتمثل في تعزيز الاستهلاك المحلي كمحرك رئيس للنمو الاقتصادي، ففي مارس الماضي، طرحت الحكومة «خطة عمل خاصة» لزيادة الطلب الداخلي، مع التركيز على القضاء على ثقافة العمل الإضافي المفرط وضمان حقوق الراحة والإجازات.
وشملت المبادرات إضافة يومين إلى العطلات الرسمية لهذا العام، في مسعى واضح لدفع المواطنين إلى قضاء وقت أطول في التسوق والسفر والنشاطات الترفيهية.
رغم هذه الجهود، لا تزال ثقافة العمل الشاق متجذرة في قطاعات عديدة، خصوصاً في قطاع التكنولوجيا، ففي بكين، وتحديداً في حي هايديان، المعروف باسم «وادي السيليكون الصيني».
وتقول السيدة تانغ، الموظفة بإحدى شركات الحوسبة السحابية، إنها باتت تغادر العمل نحو التاسعة والنصف مساءً بدلاً من منتصف الليل، مضيفة أن الجيل الأصغر أصبح أقل تسامحاً مع ساعات العمل الطويلة.
لكنها تشير إلى أن الوضع الاقتصادي الصعب ما زال يشكل تحدياً، قائلة: «عندما يكون الاقتصاد مزدهرًا، يمكنك الحديث عن سعادة الموظفين».
من جانبها، تسعى السيدة لي، البالغة من العمر 36 عاماً، إلى تحقيق توازن أفضل بعد تعرضها للاحتراق المهني، لكنها لا تزال تجد صعوبة في استغلال أيام إجازتها السنوية بالكامل، وتوضح: «لم نعد نرى جدوى من إنجاب الأطفال، لأننا بالكاد نعيش حياة جيدة نحن أنفسنا».
وبالنسبة للعاملين في قطاع الخدمات، فإن التحسن لا يكاد يُذكر، إذ يضطر كثيرون للعمل دون إجازات منتظمة، ما يعكس التحديات الهائلة أمام إحداث تحول حقيقي في ثقافة العمل داخل الصين.
وفي ظل هذه التحولات الجارية، يبدو أن الصين أمام مرحلة دقيقة: بين سعيها لحماية رفاهية العمال، وطموحها لإنعاش أسواقها الداخلية، وبناء اقتصاد أكثر استدامة على المدى الطويل.