تجد تونس نفسها اليوم في خضم عاصفة اقتصادية خانقة، حيث يرتفع حجم الديون بشكل مستمر، مما يشكل تهديداً مباشراً لاستقرارها المالي. في ظل هذا الوضع الصعب، تسعى الحكومة جاهدة لتنفيذ إصلاحات اقتصادية جوهرية تهدف إلى الخروج من فخ الاستدانة، وهو ما يثقل كاهل معدلات النمو الاقتصادي.
وتعاني تونس من أزمة قروض مستمرة، إذ تعتمد الحكومة على الاقتراض لسداد مديونياتها السابقة، مما يؤثر سلباً على النمو الاقتصادي. فخلال الربع الأول من العام الجاري، سجل الاقتصاد نمواً متدنياً بنسبة 1%، لينخفض هذا المعدل إلى 0.6% خلال النصف الأول من العام، كما تشير الباحثة الاقتصادية التونسية ألفة السلامي.
وفي تصريحات لـ«إرم بزنس»، أشارت السلامي إلى أن تونس شهدت خلال السنوات الأخيرة ارتفاعاً ملحوظاً في حجم القروض الداخلية والخارجية، حيث اقتربت نسبتها لنحو 80% من الناتج المحلي الإجمالي، مما يزيد من الضغوط على الموازنة العامة للدولة.
وقبل بضعة أيام، كشفت أحدث بيانات صادرة عن البنك المركزي التونسي عن ارتفاع خدمة الدين الخارجي بنسبة 46.6%، لتتحول قيمتها من 7 مليارات دينار (2.3 مليار دولار) في سبتمبر 2023 إلى نحو 10.3 مليار دينار (3.4 مليار دولار) حالياً.
وخلال النصف الأول من العام الجاري، ارتفعت نسبة الديون الداخلية من إجمالي الدين العام بشكل كبير لتصل إلى 25%، وفق بيانات المعهد الوطني للإحصاء في تونس.
كما ارتفعت خلال الفترة ذاتها إجمالي الديون الداخلية والخارجية بنسبة 6.5% إلى 42 مليار دولار، كما يمثل الدين العام في تونس نحو 78.1% من الناتج المحلي الإجمالي، بحسب معهد الإحصاء.
ووفق الباحثة الاقتصادية فإن القروض الخارجية ارتفعت إلى 10.5 مليار دينار (3.2 مليار دولار) في العام الماضي، من 7.6 مليار دينار (2.4 مليار دولار) في عام 2022.
في حين ارتفع حجم الاقتراض الداخلي من 10.5 مليار دينار (3.2 مليار دولار) عام 2022 إلى 11.3 مليار دينار (3.52 مليار دولار) سنة 2023، وفق الباحثة.
ورغم هذا الارتفاع الكبير في الديون، تشير السلامي إلى اعتزام الحكومة جمع قروض بنحو 16.445 مليار دينار (5.244 مليار دولار) من الخارج، و11.743 مليار دينار (3.745 مليار دولار) من الداخل لسد فجوة مالية تصل إلى 28.708 مليار دينار (9.155 مليار دولار).
ومع تزايد عمليات الاقتراض، تقول إن الحكومة التونسية تتوقع أن يصل إجمالي الدين العام خلال العام الجاري إلى نحو 140 مليار دينار (45.17 مليار دولار)، ما يعادل نحو 79.8% من الناتج المحلي الإجمالي، ارتفاعاً من 127 مليار دينار (42 مليار دولار).
الديون الداخلية المستحقة هذا العام، تشكل التحدي الأكبر للاقتصاد، إذ تمثل عبئاً على موازنة الدولة وتزيد من تكلفة الاقتراض، في بلد يعاني من عجز في المالية العامة واضطرابات في وفرة موارد النقد الأجنبي.
ووفق بيانات سابقة لوزارة المالية، فإن الدولة مطالبة بسداد 24.7 مليار دينار (7.96 مليار دولار) في عام 2024. بينما تظهر إحصائيات المركزي التونسي أن احتياطي النقد الأجنبي يسجل 23.771 مليار دينار (نحو 7.581 مليار دولار) حتى التاسع من شهر مايو الماضي، وهو ما يكفي واردات 3 أشهر ونصف.
بدوره، يحذر الخبير الاقتصادي وليد الكسراوي، في تصريحات لـ«إرم بزنس» من مخاطر اقتصادية جراء زيادة حجم الديون التي قد تواجهها تونس، لأنها تؤدي إلى ارتفاع العجز المالي الذي يجعل البلاد عرضة لمزيد من الاقتراض، كما تضغط على السيولة المتوفرة، حيث تتوجه أموال كبيرة لسداد خدمة الديون دون قدرة الدولة على توجيهها نحو القطاعات الإنتاجية.
كما يؤدي ارتفاع الديون إلى زيادة تكلفة الاقتراض، الذي يعزز من خطر تخفيض التصنيف الائتماني للبلاد، ويصعب الحصول على تمويلات بشروط ميسرة. هذا بالإضافة إلى تفاقم الأزمات الاجتماعية، لأن عبء الديون يؤدي إلى تقييد قدرة الحكومة على تمويل البرامج الاجتماعية والتنموية، مما يزيد حدة الفقر، ويزيد السخط الشعبي، وفق الكسراوي.
الحل المثالي لنجاح البلاد في تجاوز أزمة الديون، يكمن في سرعة تفعيل مسار الإصلاحات الاقتصادية التي تستهدف تنويع مصادر التمويل وخفض حجم الاقتراض الخارجي والداخلي والبحث عن موارد تمويلية بعيداً عن الاستدانة، وتقليص عجز الميزانية هيكلة الشركات الحكومية، من أجل دفع عجلة الإنتاج وتعزيز النمو الاقتصادي، وفق الكسراوي.
وتستهدف وزارة المالية التونسية خفض عجز الميزانية إلى 6.6% من الناتج المحلي في عام 2024، من 7.7% في 2023، وإلى 3.9% بنهاية 2026، وفقاً للإعلام المحلي.
ويقول الكسراوي «إذا استمرت الحكومة في تنفيذ الإصلاحات بفعالية، خاصة فيما يتعلق بترشيد الإنفاق وزيادة الإيرادات الضريبية ومكافحة الفساد وهيكلة الشركات الحكومية، فإن تونس ستتمكن من تقليل اعتمادها على القروض وتحسين قدرتها على سداد الديون».
وخلال النصف الأول من العام الجاري، سددت تونس قروضاً مستحقة بقيمة 11.6 مليار دينار (3.7 مليار دولار)، وفقاً لتصريحات سابقة لوزيرة المالية سهام البوغديري أوردها الإعلام التونسي.
كما أعلنت البوغديري، في يناير الماضي، أن بلادها تمكنت من سداد جميع ديونها المحلية والخارجية لعام 2023 والتي قدرت بـ2.7 مليار دولار، وذلك رغم الضغوط الهائلة على ماليتها العامة، مما يبدد الشكوك إزاء احتمال تخلفها عن السداد.
ويعتقد الكسراوي أن عائدات السياحة وتحويلات التونسيين بالخارج توفر «نقطة مضيئة» في المشهد الاقتصادي التونسي وسط أزمة الديون. لكنه يحذر من أن «الاعتماد الكبير على هذه القطاعات قد لا يكون كافياً إذا لم تُعالج مشكلات الإنفاق الحكومي والفساد المالي بشكل جذري».
وبحسب بيانات المركزي التونسي، ارتفع حجم عوائد قطاع السياحة بنسبة 7.2%، وناهزت قيمتها 5.1 مليار دينار (1.7 مليار دولار)، خلال الفترة من يناير الماضي إلى 10 سبتمبر الجاري بالمقارنة بالفترة ذاتها من العام 2023.
كما أظهرت البيانات ذاتها، أن تحويلات التونسيين العاملين بالخارج بلغت في العام الماضي 8.2 مليار دينار (نحو 2.7 مليار دولار، و3.167 مليار دينار (1.02 مليار دولار) خلال النصف الأول من 2024 بارتفاع 3.5% على أساس سنوي، ما يمثل دعماً كبيراً لاحتياطات البلاد من العملة الصعبة.
ويرى الخبير الاقتصادي التونسي، أن هذه التحويلات لا تساهم فقط في تمويل الاستهلاك المحلي، بل تساعد أيضاً في تخفيف الضغط عن الحكومة في مواجهة الديون الخارجية.
ورغم ما تواجهه تونس من تحديات مالية كبيرة نتيجة حجم الديون، لكن هناك بوادر أمل في ظل الانتعاش الذي يشهده قطاعا السياحة وتحويلات التونسيين بالخارج. ولكن تبقى المسألة الحاسمة هي مدى قدرة الحكومة على تنفيذ الإصلاحات بفعالية، وفي الوقت المناسب، لتجنب المزيد من التدهور الاقتصادي وضمان استدامة مالية على المدى الطويل، وفق الكسراوي.