بدأت حادثة تفجير أجهزة النداء (البيجر) واللاسلكي المحمولة المستخدمة من قبل «حزب الله» في لبنان الأسبوع الماضي، تثير تساؤلات عميقة حول أمن سلاسل التوريد العالمية. العملية التي يُعتقد أن إسرائيل هي من نفذتها عن طريق إدخال متفجرات صغيرة في هذه الأجهزة، تسلط الضوء على مدى تعقيد سلاسل التوريد، والعواقب المحتملة التي قد تنتج عنها عند اختراقها. إذ يمكن لطرف ثالث أن يستغل التعقيدات في سلاسل التوريد، ويدخل مكونات ضارة ضمن المنتجات العادية، ما يؤدي إلى نتائج كارثية، كتلك التي شهدناها في لبنان.
يُظهر هذا الحادث كيف أن أمن سلاسل التوريد لم يعد مسألة تجارية فحسب، بل أصبح مسألة إستراتيجية ذات أبعاد دولية. المكونات المستخدمة في الأجهزة الإلكترونية، وخصوصاً تلك التي تعتمد على تقنيات متقدمة، تنتقل عبر العديد من الدول والمصانع قبل أن تصل إلى وجهتها النهائية. وهذا يفتح الباب أمام احتمالات التدخل الضار على طول سلسلة التوريد.
هذا السيناريو يعيد إلى الأذهان هجمات 11 سبتمبر 2001، وتأثيرها الكبير على الأمن العالمي، وخصوصاً في المطارات. بعد تلك الهجمات، تغيرت إجراءات الأمن بشكل جذري في المطارات حول العالم، إذ أصبحت عمليات التفتيش والفحص أكثر صرامة ودقة، ما زاد صعوبة التلاعب بالنظم الأمنية. ومع تطور التقنيات، باتت الأنظمة الأمنية تعتمد بشكل أكبر على الذكاء الاصطناعي والتحليل البياني لرصد الأنشطة المشبوهة.
في السنوات الأخيرة، زادت الهجمات السيبرانية على الشركات الكبرى، ما أثار تساؤلات حول كيفية حماية البنية التحتية الحيوية وسلاسل التوريد من الاختراقات التكنولوجية. وقد بدأت الشركات والحكومات بتطوير أنظمة متقدمة للتأكد من سلامة المنتجات والمكونات المستخدمة، باستخدام تقنيات مثل التشفير ومتابعة سلسلة التوريد في الوقت الحقيقي.
على المنوال نفسه، يُتوقع أن تغير حادثة لبنان مستقبل سلاسل التوريد بشكل كبير، إذ تواجه الشركات اليوم ضغوطاً متزايدة لتحسين أنظمة الأمن لديها، والتأكد من مصادر المواد والمكونات المستخدمة في التصنيع. وتزداد الدعوات لنقل الإنتاج إلى دول أقرب أو حتى إلى الداخل المحلي، وهو ما يسمى بـ«الاستقدام المحلي» (reshoring) أو «الاستقدام القريب» (nearshoring). هذه التحركات تهدف إلى تقليل الاعتماد على المصانع البعيدة التي قد تكون عرضة للاختراق من قِبل جهات تسعى إلى إحداث ضرر.
من جانب آخر، هناك تساؤلات حول الكلفة الاقتصادية لهذا التحول، إذ إن «الاستقدام المحلي» قد يؤدي إلى زيادة في تكاليف الإنتاج بسبب ارتفاع الأجور وتكاليف التشغيل في بعض الدول. ومع ذلك، يرى الخبراء أن ضمان أمن سلاسل التوريد وسلامة المنتجات، يستحق هذه التكلفة على المدى الطويل، خصوصاً مع ازدياد الهجمات الإلكترونية وعمليات التخريب الصناعي.
القلق حول أمن سلاسل التوريد ليس جديداً، ولكنه أصبح أكثر إلحاحاً بعد تفشي جائحة كوفيد-19، إذ أدت الاضطرابات في الشحن الدولي إلى نقص في المواد والمنتجات الأساسية. وقد أثبتت الجائحة مدى ضعف سلاسل التوريد العالمية أمام الأزمات، ما أدى إلى إعادة التفكير في كيفية إدارة وتوزيع الموارد بشكل أكثر أماناً واستدامة. وهذا يعزز الاتجاه نحو تقليل الاعتماد على سلاسل التوريد الطويلة والمتفرعة، التي يمكن أن تكون معرضة لأحداث غير متوقعة، مثل الأوبئة أو الصراعات الجيوسياسية.
حوادث مثل تفجيرات لبنان تعزز هذا الاتجاه، وتدفع الحكومات والشركات إلى اتخاذ تدابير أكثر صرامة لحماية سلاسل التوريد من التلاعب والاختراق. كما تسهم التكنولوجيا في هذا السياق، إذ تُسْتَخْدَم تقنيات الذكاء الاصطناعي وتقنيات «البلوكتشين» لتعزيز الشفافية، وتتبع المكونات عبر سلسلة التوريد بشكل أفضل.
في المستقبل، من المحتمل أن نرى تشديداً في السياسات المتعلقة بسلاسل التوريد على المستوى الدولي. قد تصبح الدول والشركات أكثر ميلاً لتفضيل الموردين القريبين، أو من الدول الحليفة، لضمان أمان المنتجات وتقليل المخاطر الأمنية، هذه التحولات ستسهم في تقليل الاعتماد على سلاسل التوريد المعقدة والعابرة للحدود، والتي تحمل في طياتها أخطاراً متعددة.
تظل سلاسل التوريد جزءاً حيوياً من الاقتصاد العالمي، ولكن يتطلب المستقبل تبني سياسات أكثر صرامة، وتعاوناً دولياً أكبر، لضمان أمن هذه السلاسل في ظل التهديدات المستمرة.