في خضم السباق العالمي المحموم نحو حيازة قدرات الذكاء الاصطناعي، تبدو جهود دولة الإمارات لحجز مكان في المقدمة الأكثر جدية ولفتاً للأنظار، بدءاً من إعلان استراتيجية طموحة للتحول إلى أحد رواد العالم في الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2031، وكذلك إنشاء أول منصب وزير للقطاع وأول جامعة متخصصة في العالم، وصولاً إلى دخولها مؤخراً كشريك مع الكبار ضمن في أضخم مشروع عالمي بقيمة 500 مليار دولار.
تنظر الإمارات إلى الذكاء الاصطناعي وقطاع التكنولوجيا الأوسع، كفرصة هامة لرفد أهدافها الخاصة بتنويع الاقتصاد بعيداً عن النفط. وهي في ذلك، بما تملكه من مقومات وعلاقات متينة مع شركات التكنولوجيا الكبرى، تهدف ليس فقط إلى التموضع استراتيجياً، بل أيضاً إلى التحول إلى مركز تكنولوجي عالمي عبر استقطاب أفضل المواهب والشركات.
مع بدء الحكومات والقطاع الخاص بإدراك أهمية التحول العالمي نحو الذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة، لم يعد التخلف عن الركب خياراً بالنظر إلى التأثير الاقتصادي المتوقع. فوفق تقديرات شركة الاستشارات (PwC)، يرجّح أن تحقق منطقة الشرق الأوسط ما يعادل 320 مليار دولار من إجمالي الفوائد العالمية للذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030، في وقت تمضي هذه الثورة التكنولوجية الجديدة نحو إحداث تغيير جذري في الاقتصاد العالمي، وسط تقديرات بمساهمتها بما يصل إلى 15.7 تريليون دولار بحلول ذلك التاريخ.
وفقاً للإفصاحات المالية لشهر أكتوبر 2024، يُتوقع أن يتجاوز إنفاق شركات التكنولوجيا العملاقة («مايكروسوفت» و«غوغل» و«أمازون» و«ميتا») على الذكاء الاصطناعي، 300 مليار دولار خلال العام الجاري، أي بزيادة 25% عن عام 2024، ليصل هذا الإنفاق إلى ضعف ما كان عليه في عام 2023، وهذا فضلاً عن جهود شركة (xAI) التابعة للملياردير الأميركي إيلون ماسك، من أجل اللحاق بالركب.
في الوقت ذاته، جعلت الولايات المتحدة من سلسلة توريد الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات، حلبة صراع مع الصين، بينما تضخ الدولتان عشرات المليارات سنوياً لبناء قدرات الذكاء الاصطناعي المحلية.
أما الإمارات، فهي تتصدر حالياً جهود تبني «الرقمنة» وتقنيات الذكاء الاصطناعي و«البلوكتشين» على الصعيدين الإقليمي والعالمي، كما تعدّ نموذجاً في التحوّل الرقمي وإقحام تقنيات الذكاء الاصطناعي ضمن القطاع الحكومي، حيث تهدف أبوظبي لأن تصبح أول حكومة في العالم تعتمد بالكامل على الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2027.
بالعودة إلى أرقام (PwC)، يُتوقع أن تشهد الإمارات أكبر تأثير للذكاء الاصطناعي في الاقتصاد ضمن منطقة الشرق الأوسط، بنسبة تقارب 14% من الناتج المحلي الإجمالي، أي نحو 96 مليار دولار بحلول 2030.
قبل أن يسيطر الذكاء الاصطناعي على أحاديث العالم بعد الصخب الذي أحدثه إطلاق تطبيق «تشات جي بي تي» (ChatGPT)، وتحديداً في عام 2017، أطلقت حكومة الإمارات استراتيجية وطنية للذكاء الاصطناعي أعلنت فيها عن هدفها بأن تصبح رائدة عالمياً في هذا المجال بحلول عام 2031. منذ ذلك الحين، استثمرت مليارات الدولارات، وحوّلت الدولة إلى مركز للابتكار التكنولوجي والاستثمار الأجنبي.
من ضمن خطتها تلك، أعلنت عن تشكيل مجلس اتحادي للذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا «البلوكتشين» في العام ذاته برئاسة عمر العلماء، الذي أصبح أول وزير دولة للذكاء الاصطناعي في العالم، كما أنشأت جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي في عام 2019، ومعهد الابتكار التكنولوجي (TII) في العام الذي أعقبه، كإحدى أذرع مجلس بحوث التكنولوجيا المتقدمة (ATRC)، وهو الجهة المسؤولة عن وضع استراتيجية البحث في إمارة أبوظبي ضمن القطاعات الأكاديمية والصناعية.
بعد ذلك بسنوات قليلة، أطلقت الإمارات استراتيجية للاقتصاد الرقمي تهدف إلى زيادة مساهمة السلع والخدمات المتعلقة بالإنترنت والتكنولوجيا من 11.7% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2021، إلى أكثر من 20% بحلول 2031. وقد شكلت مجموعة «جي 42» (G42)، الشركة التكنولوجية القابضة المدعومة من صندوق الثروة السيادي «مبادلة» والشركات التابعة لها، إلى جانب مشغل الاتصالات الوطني «e&» («اتصالات» سابقاً)، أهم محركات التقدم نحو هذا الهدف.
وقد أضافت الإمارات أخيراً جهازاً آخر، هو مجلس الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدمة (AIATC) الذي تأسس في يناير 2024، وأتبعته بالإعلان عن إنشاء أداة استثمارية في الذكاء الاصطناعي أطلق عليها «إم إكس جي» (MGX)، والتي يُتوقع أن تصل قيمة أصولها إلى 100 مليار دولار، وذلك بالتعاون ما بين «مجلس الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدمة» و«مبادلة» و«جي 42».
في حديث لمجلة «التايمز» البريطانية قبل أشهر، قال فيصل البناي الأمين العام لمجلس بحوث التكنولوجيا المتقدمة: «قبل إطلاق (فالكون) لم نكن على الخريطة.. ولكن بفضل 25 شخصاً، تمكّنا من تحقيق ذلك، وقد أحدث مفاجأة حقيقية»، ملخّصاً بذلك نقطة التحول الإماراتية في مجال الذكاء الاصطناعي.
لقد لفت نجاح «فالكون» على يد 25 عالم كومبيوتر فقط، الأنظار إلى الإمارات، وشكّل وفقاً لبعض المقاييس، أفضل نموذج لغة كبير مفتوح المصدر عالمياً.
كان معهد الابتكار التكنولوجي محورياً بالنسبة إلى بحوث الذكاء الاصطناعي في الإمارات، حيث أطلق نموذج «فالكون» للغة الكبيرة (LLM) في عام 2023، والذي بات ينافس أو حتى يتفوق على النماذج التي طورتها «غوغل» و«ميتا». أما «إنسيبشن» (Inception)، شركة الذكاء الاصطناعي التابعة لـ«جي 42»، فأطلقت بدورها إصدارات متعددة من نموذج «جيس» (Jais) القائم على اللغة العربية، والذي يصنّف ضمن أكثر برامج (LLM) تقدماً.
في عام 2021، كان الاستثمار في شركة «سیریبراس» (Cerebras) للرقائق الإلكترونية والذكاء الاصطناعي التوليدي ومقرها في وادي السيليكون بولاية كاليفورنيا الأميركية، من بين الاستثمارات الأولى التي قام بها «صندوق أبوظبي للنمو» (ADG) والذي كان قد تم إطلاقه حديثاً، وذلك كمستثمر رئيس في جولة التمويل الأولى بقيمة 250 مليون دولار، والتي قدرت قيمة الشركة بـ4 مليارات دولار، وشاركت فيها أيضاً شركة «جي 42»، ومقرها في أبوظبي.
الشركة ذاتها، أطلقت في عام 2023 بالتعاون مع «جي 42»، شبكة عالمية مكونة من 9 حواسيب عملاقة مترابطة لتدريب الذكاء الاصطناعي.
من ناحيتها، ومقابل 500 مليون دولار، استحوذت «مبادلة» الإماراتية في العام الماضي على حصة 3% في شركة «أنثروبیك» (Anthropic) الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي، التي أسسها عضوان سابقان في شركة «أوبن إيه آي» (OpenAI)، والمدعومة من «أمازون».
كما شاركت (MXG) في جولة تمويل بقيمة 6 مليارات دولار لشركة (xAI) في أواخر العام الماضي.
تسلّحت الإمارات أيضاً بشراكات مليارية مع شركات عملاقة في هذا المجال، دأب العديد من رؤسائها وكبار مسؤوليها التنفيذيين على زيارة الإمارات وإجراء محادثات مع مسؤوليها.
وبالاشتراك مع «بلاك روك» و«مايكروسوفت» و«غلوبال إنفراستراكتشور بارتنرز» (Global Infrastructure Partners)، أطلقت (MGX) صندوقاً عالمياً للبنية التحتية للذكاء الاصطناعي برأسمال أولي قدره 30 مليار دولار، وإمكانات استثمارية تصل إلى 100 مليار دولار.
وفي 21 يناير 2025، أطلقت «أوبن إيه آي» الأميركية التي تقف وراء تطبيق «تشات جي بي تي»، مفاجأة عندما أعلنت أن (MGX) ستكون واحدة من الممولين الأوائل لمشروع «ستارغيت» (Stargate) المدعوم من البيت الأبيض، والذي يخطط لاستثمار 500 مليار دولار في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة على مدى السنوات الأربع المقبلة، بقيادة مجموعة «سوفت بنك» اليابانية أيضاً.
وكانت «مايكروسوفت» بدورها قد ضخت في أبريل 2024، استثماراً بقيمة 1.5 مليار دولار في شركة «جي 42».
أما على المستوى الحكومي، فقد وقّع رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان والرئيس الأميركي السابق جو بايدن في واشنطن في سبتمبر 2024، اتفاقية تعاون ثنائية في مجال الذكاء الاصطناعي بين البلدين. كما استطاعت الإمارات الحصول على موافقة الحكومة الأميركية على تراخيص تصدير رقائق «إنفيديا» المتطورة (H100) الحيوية لتدريب الذكاء الاصطناعي، إلى منشأة إماراتية تديرها «مايكروسوفت» أواخر عام 2024.
نظراً لكون تطوير قدرات الذكاء الاصطناعي يعتمد بشكل أساسي على التوسّع في مراكز البيانات، فقد منحت وفرة الطاقة التي تعدّ التحدي الأبرز في هذا الإطار، الإمارات ميزة تمكنها من تلبية الطلب الكبير، حيث تعمل على زيادة محطات الإنتاج بما فيها الطاقة المتجددة.
توفر مراكز البيانات الإماراتية حالياً أكبر سعة طاقة في المنطقة، كما تعد الإمارات موطناً للعديد من التكتلات المتخصصة، بما في ذلك «خزنة» (Khazna) -المشروع المشترك بين (G42) و(e&) -التي تطمح لأن تصبح أكبر مشغل إقليمي لمراكز البيانات.
وقد طرق طموح الإمارات قطاعاً أكثر تعقيداً وحساسية، ألا وهو أشباه الموصلات، حيث تحدثت وسائل الإعلام في سبتمبر الماضي عن مناقشات بين مسؤولين حكوميين وشركة «تايوان لصناعة أشباه الموصلات المحدودة» (TSMC)، وهي أكبر مصنّع للرقائق في العالم فضلاً عن «سامسونغ»، لبناء مصانع ضخمة للرقائق في الإمارات والشرق الأوسط.
بشكل عام، تتموضع الإمارات جيداً في هذا القطاع، بما يخوّلها الاستفادة من ثورة الذكاء الاصطناعي والبقاء في المقدمة. ویُعزى ذلك إلى مزایا رئیسة عدّة. فإلى جانب المبادرات الحكومية الاستباقیة ووفرة الطاقة، تتمتع الإمارات، وغيرها أيضاً من دول الخليج، بقدرة استثمارية ضخمة، مع وجود صناديق الثروة السيادية والشركات العائلية، فضلاً عن أنها تحظى بواحدة من أفضل البنى التحتية لتقنية المعلومات والاتصالات في العالم. وكل ذلك يضاف إلى العلاقات الوثيقة مع الدول والشركات التي تضطلع بدور رئیس في ثورة الذكاء الاصطناعي.