logo
اقتصاد

التجارة الحرة تلفظ أنفاسها الأخيرة.. عالم جديد من التحالفات والحمائية

التجارة الحرة تلفظ أنفاسها الأخيرة.. عالم جديد من التحالفات والحمائية
سفينة شحن تبحر نحو ميناء في خليج فنلندا، سانت بطرسبرغ – 16 يوليو 2024المصدر: رويترز
تاريخ النشر:21 مارس 2025, 04:19 م

يشهد العالم تحولاً جذرياً في مشهد التجارة العالمية، ما يضع نهاية لعصر التجارة الحرة الذي كان يُنظر إليه كوسيلة لتعزيز السلام والاستقرار الاقتصادي، إذ ساد الاعتقاد لعقود، بأن التكامل الاقتصادي سيشجع التعاون، ويكبح طموحات الأنظمة الاستبدادية، إلا أن التوترات الجيوسياسية – وعلى رأسها الحرب الروسية الأوكرانية – قلبت هذه الفرضية رأساً على عقب.

وأصبح التركيز الآن على الأمن الاقتصادي بدلاً من الكفاءة السوقية، وعلى تعزيز القدرة على الصمود بدلاً من تقليل التكاليف.

تراجع الحوكمة التجارية متعددة الأطراف

وبحسب تقرير نشره موقع «ذا كونفرسيشن» لم يعد لمنظمة التجارة العالمية (WTO)، التي لعبت دورا محوريا في تنظيم التجارة العالمية منذ تأسيسها عام 1995، التأثير الذي كانت تتمتع به سابقا، حيث تعثرت المفاوضات التجارية متعددة الأطراف، وتوقفت آلية تسوية النزاعات داخل المنظمة.

الولايات المتحدة، التي كانت ذات يوم المدافع الأكبر عن التجارة القائمة على القواعد، باتت تنظر الآن إلى السياسة التجارية من منظور القوة الجيوسياسية بدلاً من الأطر القانونية، كما أن المفاوضات المستمرة منذ سنوات بشأن القضايا المتعلقة بالدعم الزراعي ومصايد الأسماك لم تحقق أي تقدم يذكر، الأمر الذي يعكس صعوبة التوصل إلى توافق في ظل تباعد المصالح الوطنية بشكل متزايد.

وفي التسعينيات، قادت جولة مفاوضات أوروغواي إلى إنشاء منظمة التجارة العالمية، وذلك بفضل أجندة واسعة النطاق قدمت مكاسب لجميع الأطراف.

أما اليوم، فالمفاوضات أصبحت أكثر ضيقاً، ما يجعل التوصل إلى حلول وسط أمراً أكثر صعوبة، ونتيجة لذلك، لم تعد الليبرالية التجارية أولوية قصوى، بينما ازدادت الحمائية بشكل ملحوظ.

وانخفض عدد الاتفاقيات التجارية الجديدة منذ عام 2020 إلى أقل من نصف متوسط العدد في العقد السابق، بينما تضاعفت السياسات الحمائية بمعدل خمسة أضعاف منذ عام 2015.

كما تدفع الحاجة إلى تأمين سلاسل التوريد الحيوية الحكومات إلى تفضيل الصناعات المحلية على حساب مبادئ التجارة الحرة.

الأمن القومي يعيد تشكيل أولويات التجارة

كما أصبحت الاعتبارات الأمنية الآن من العوامل الحاسمة في رسم السياسات التجارية، مما يذكرنا بحجة آدم سميث في كتابه ثروة الأمم بأن «الدفاع أكثر أهمية من الرخاء». 
وفي ظل حالة عدم الاستقرار الجيوسياسي الحالية، باتت الأدوات الاقتصادية وسيلة رئيسية لممارسة النفوذ الاستراتيجي، ولا سيما في ظل عجز الأمم المتحدة عن ردع العدوان الدولي.

ويتجلى هذا التحول في سياسات الاتحاد الأوروبي تجاه الصين، حيث أصبحت تعتمد بشكل متزايد على تحليل الاعتماد الاقتصادي لتحديد السلع والقطاعات الاستراتيجية.

وبموجب قانون صناعة الحياد الصفري، يضع الاتحاد الأوروبي أهدافاً لتحقيق الاكتفاء الذاتي في التقنيات الخضراء.

ومع ذلك، فإن تقليل الاعتماد على الواردات لا يعني بالضرورة إحلال الإنتاج المحلي محل السلع الأجنبية، بل ينبغي للاتحاد الأوروبي التركيز على تنويع مورديه بدلاً من السعي إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي المطلق.

صعود التحالفات التجارية الإقليمية

وتتزايد أهمية الشراكات التجارية الإقليمية الأصغر حجما، مع تعثر التعددية التجارية العالمية، ولا سيما وأن هذه التحالفات التجارية، تجمع بين المصالح الاقتصادية والأولويات الأمنية المشتركة.

ويعد تعزيز الاتحاد الأوروبي لعلاقاته التجارية مع «ميركوسور»، وهو تجمع اقتصادي في أميركا الجنوبية، مثالًا على هذا النهج، إذ إن مثل هذه الشراكات توفر بديلا استراتيجيا للحروب التجارية، مما يسمح للدول بتجنب السياسات الحمائية المتبادلة مع الحفاظ على التعاون الاقتصادي.

ومن النماذج الأخرى التي تبرز على الساحة مفهوم أندية المناخ، حيث تتفق الدول على استراتيجيات مشتركة لخفض انبعاثات الكربون مع ضمان أمن الطاقة، من خلال تنسيق سياسات مثل تسعير الكربون، يمكن لهذه التحالفات حماية أعضائها من المنافسة غير العادلة وتعزيز التجارة المستدامة.

التحدي الأساسي في هذا السياق هو التمييز بين المخاوف الأمنية المشروعة والممارسات الحمائية المتسترة بذرائع أمنية، إذ إن بعض الدول تستخدم الأمن القومي كذريعة لفرض سياسات تجارية مقيدة.

وعلى الرغم من أن منظمة التجارة العالمية قضت بعدم جواز الاستخدام التعسفي لمبررات الأمن القومي، إلا أن مثل هذه الأحكام زادت من شكوك الولايات المتحدة تجاه المنظمة.

ولمنع تحول السياسات التجارية إلى صراعات اقتصادية، ينبغي للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تنسيق جهودهما في مواجهة القضايا المشتركة، مثل فائض الإنتاج الصناعي وأمن التكنولوجيا، فمن شأن النهج المشترك أن يمنع انتشار النزعات التجارية القومية الأحادية.

تمكين الدول النامية عبر الاتفاقيات الإقليمية

يرى بعض المراقبين أن تراجع التعددية التجارية قد يضر بالدول النامية، مما يجعلها أكثر عرضة لهيمنة القوى الاقتصادية الكبرى، إلا أن الاتفاقيات التجارية الإقليمية يمكن أن تعزز نفوذ هذه الدول من خلال منحها قوة تفاوضية جماعية.

وتعد منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية (AfCFTA) مثالاً واضحاً على ذلك، فمنذ إطلاقها بتوقيع 22 دولة، توسعت لتشمل 48 دولة، مما عزز من دور القارة الأفريقية في التجارة العالمية.

وشدد التقرير إنه رغم التراجع النسبي لدور منظمة التجارة العالمية، إلا أنها لم تفقد أهميتها تمامًا، بل يمكنها إعادة توجيه تركيزها نحو الاتفاقيات "متعددة الأطراف المصغرة"، والتي تجمع بين الدول المتوافقة في المصالح، حيث أثبت هذا النهج نجاحه بالفعل في مجالات مثل التجارة الإلكترونية وتسهيل الاستثمارات.

كما أن هناك مبادرات ناشئة لمعالجة قضايا مثل دعم الوقود الأحفوري وتنظيم تجارة البلاستيك المستدامة بيئيا، مما يثبت فعالية هذه الشراكات المرنة.

عصر جديد من السياسات التجارية

وأكد التقرير أن العصر الذهبي للتجارة الحرة قد يكون انتهى، إلا أن هذا لا يعني كارثة اقتصادية، بل على العكس، يمثل هذا التحول فرصة لإعادة تشكيل النظام التجاري العالمي ليكون أكثر مرونة وأمانًا واستدامة، مشددا أنه مع استمرار تطورات المشهد الجيوسياسي، ستلعب التحالفات الإقليمية، وتنويع سلاسل التوريد، والاتفاقيات المستهدفة دورًا أساسيًا في تحديد مستقبل التجارة العالمية.

وبدلًا من الأسف على تراجع التعددية التجارية، ينبغي للسياسيين وصناع القرار تبني هذا التحول باعتباره استجابة ضرورية لعالم أكثر تقلبًا.

logo
اشترك في نشرتنا الإلكترونية
تابعونا على
تحميل تطبيق الهاتف
جميع الحقوق محفوظة © 2024 شركة إرم ميديا - Erem Media FZ LLC