في تحول جذري عن الأعراف التجارية الدولية، أطلقت الإدارة الأميركية مبادرة جمركية «تبادلية» تهدف إلى تقليص العجز التجاري وإحياء الصناعة المحلية. وبينما تبدو المبادرة وكأنها رد مباشر على الاختلالات العالمية، يحذّر اقتصاديون من أنها قد تؤدي إلى اضطرابات اقتصادية واسعة دون معالجة الأسباب الهيكلية للعجز.
وبعكس الرسوم السابقة التي استندت إلى اعتبارات الأمن القومي، تمثل المبادرة الحالية تحولاً هيكلياً في السياسة التجارية الأميركية، إذ تعتمد على زيادات جمركية أحادية تذكّر بسياسات ما قبل الحرب العالمية الثانية، وتتناقض مع قواعد منظمة التجارة العالمية واتفاقية (GATT).
كما تثير هذه الخطوة جدلاً قانونياً داخلياً، مع نقل سلطة فرض الرسوم من الكونغرس إلى السلطة التنفيذية، وهو ما قد يخلّ بالتوازن المؤسسي في النظام السياسي الأميركي. ووفقاً لتقرير «مؤسسة بروكينغز»، فإن تهميش الكونغرس في السياسات التجارية قد يعرّض الإطار الدستوري الأميركي للخطر.
يشير الاقتصاديون إلى أن العجز التجاري الأميركي سببه اختلالات بنيوية: عدم التوازن المالي، فروقات أسعار الصرف، والفجوة بين الادخار والاستثمار. لذلك، فإن الإجراءات الجمركية، وإن عدّلت من أنماط التجارة، لن تؤدي بالضرورة إلى تقليص العجز الكلي، بل قد ترفع تكلفة الواردات، وتدفع الشركاء التجاريين للرد بإجراءات انتقامية.
ويرى البعض أن السياسة الجمركية الحالية هي جزء من إستراتيجية أوسع غير معلنة، تشمل قيوداً محتملة على حركة رؤوس الأموال، وتدخلات في سوق العملات، فيما أصبح يُعرف بشكل غير رسمي بـ«اتفاق مارالاغو». إلا أن هذه الأفكار لا تزال في نطاق التكهنات، وتفتقر إلى دعم رسمي.
التاريخ يقدم إشارات على إمكانية التنسيق الدولي. ففي الثمانينيات، ساهمت اتفاقيتا «بلازا» و«اللوفر» في إعادة التوازن عبر تنسيق السياسات المالية وخفض قيمة الدولار. لكن هذا النجاح تحقق بتوافق داخلي أميركي، وهو ما يبدو مفقوداً اليوم، وفق التقرير.
وبحسب مقترحات الميزانية الأخيرة، تتجه واشنطن نحو توسيع العجز بدل احتوائه. رغم دعوات الانضباط المالي، يقترح مجلس النواب خفضاً في الإنفاق بقيمة تريليوني دولار، لكنه يُبقي على التخفيضات الضريبية، ما سيؤدي إلى عجز يتجاوز 6.9% من الناتج المحلي بحلول 2034. أما مجلس الشيوخ، فبنى خططه على افتراضات متفائلة لتبرير تخفيضات ضريبية بقيمة 3.8 تريليون دولار.
وترى الإدارة أن الإيرادات الجمركية يمكن أن تغطي هذه الفجوات، إلا أن الاقتصاديين يشككون في ذلك، مشيرين إلى أن الرسوم تقلص الواردات، ما يحد من مصدر الإيرادات نفسه، ويضعف الاستدامة المالية.
يؤكد محللون أن غياب إصلاحات مالية ونقدية متزامنة مع السياسة الجمركية قد يؤدي إلى تصعيد تجاري، وتراجع في الاستثمارات، ونمو بطيء. كما أن فرض قيود على رؤوس الأموال بشكل أحادي قد يزيد من عدم اليقين، ويُضعف ثقة المستثمرين.
التناقض بين السياسات الأميركية – تصعيد تجاري مقابل توسع مالي داخلي – يُفاقم المخاطر. ويخشى مراقبون من أن تؤدي هذه السياسات إلى تراجع قيمة الأصول، وهبوط الطلب العالمي، وتزايد التوترات الجيوسياسية.
رغم أن السياسات الأميركية الأخيرة نجحت في فرض واقع جديد، يشدد الخبراء على أن الحل لا يكون بالعمل الأحادي. أوروبا، التي قامت في السابق بدور قيادي خلال «إعلان رامبوييه» العام 1975 و"قمة العشرين" في لندن 2009، تبدو في موقع يؤهلها للعب دور مماثل اليوم.
تغيّرات السياسة المالية الأوروبية، مثل تخفيف «فرملة الديون» في ألمانيا وزيادة الإنفاق الدفاعي في الاتحاد الأوروبي، تعكس استعداداً أكبر للمشاركة في إعادة تشكيل النظام الاقتصادي العالمي.
يرى اقتصاديون أن التحديات الحالية تفتح نافذة نادرة لاتفاق ثلاثي – بين أميركا وأوروبا والصين – قد يعيد التوازن للنظام المالي العالمي. ويقترح بعضهم اتفاقاً رباعياً يضم:
إصلاحات مالية:
زيادة الاستهلاك المحلي في الصين، توسيع الإنفاق الدفاعي في أوروبا، وخفض العجز المالي الأميركي إلى 2.5% من الناتج المحلي.
تنسيق نقدي:
خفض مدروس لقيمة الدولار بنسبة 10–15% عبر تنسيق أسعار الصرف بإشراف صندوق النقد الدولي.
إصلاحات تنموية:
مضاعفة الإقراض التنموي، إصدار حقوق سحب خاصة بقيمة 500 مليار دولار كل 4–5 سنوات لمواجهة الديون والأوبئة والمناخ.
تحديث النظام التجاري:
إصلاح منظمة التجارة العالمية، وتحديث قواعد السياسة الصناعية لتواكب التحولات الاقتصادية في الاقتصادات الناشئة والمتقدمة.
ورغم أن المقترح ينسجم مع مصالح أميركا الإستراتيجية، إلا أن الانقسامات الداخلية قد تمنعها من قيادة هذه المرحلة. في المقابل، تبدو أوروبا مهيأة أكثر للعب هذا الدور.
قد تكون قمة جديدة على غرار بريتون وودز، بمشاركة أميركا وأوروبا والصين، الفرصة الأخيرة لتجنب الدخول في عصر حمائي طويل. فإما تنسيق منظم... أو فوضى تجارية عالمية.