أثّرت العديد من الأزمات على أداء نمو الاقتصاد البريطاني، ما وضعه تحت ضغوط غير متوقعة قد تعصف بالاستقرار المالي، وتدفع سادس أكبر اقتصاد في العالم إلى مسار جديد.
فمنذ بداية أزمة «كوفيد-19»، مروراً بالأزمة الأوكرانية، وصولاً إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي، ثم الاحتجاجات الداخلية الأخيرة، وجدت الحكومة البريطانية نفسها أمام تحديات اقتصادية داخلية في ظل أوضاع جيوسياسية إقليمية، ودولية معقدة.
ومع فوز حزب العمال برئاسة كير ستارمر في الانتخابات للمرة الأولى منذ 14 عاماً، وإنهاء أول موازنة للمملكة المتحدة برئاسة وزيرة الخزانة ريتشل ريفز، التي أعلنت عن موازنتها الأولى قبل أسابيع، تتزايد الشكوك، الآن، حول قدرة الحكومة على الوفاء بأجندة النمو التي تبناها الحزب.
وهذا يضع ريفز أمام تحدٍ حقيقي في التعامل مع العجز الذي يواجه الميزانية البريطانية، وفقًا لتقرير نشرته شبكة «سي إن إن» الأميركية.
ويطرح هذا تساؤلات حول مستقبل الاقتصاد البريطاني واستراتيجية الحكومة في معالجة الفجوة المالية المتزايدة التي تعوق تحقيق أهدافها. كما يثار التساؤل حول ما إذا كان الحل يكمن في زيادة الضرائب لسد العجز في الميزانية من عدمه.
وكانت ريفز قد أعلنت عن أكبر زيادة في الضرائب منذ 3 عقود، متهمة حزب المحافظين بترك الخدمات العامة في حالة مدمرة بعد خسارتهم في انتخابات يوليو بعد 14 عاماً في الحكم.
وقالت إن «الضرائب سترتفع بمقدار 40 مليار جنيه إسترليني سنوياً (نحو 50.6 مليار دولار)، سيكون معظمها على الشركات، لتغطية عجز قدره 22 مليار جنيه إسترليني (27.84 مليار دولار)، وهو عجز ورثته عن حزب المحافظين».
توقع تقرير نشرته وكالة «بلومبرغ» أن وزيرة الخزانة قد تحتاج إلى جمع مزيد من الأموال قبل ميزانية العام 2025، وذلك من خلال حدث مالي واحد فقط في السنة. ووفقاً لمعهد الدراسات المالية، فإن زيادات الضرائب بمقدار 40 مليار جنيه سترليني ستعادل 1.25% من الناتج الاقتصادي، وهي نسبة لم تشهدها المملكة المتحدة في التاريخ الحديث إلا في العام 1993، حينما نفذ حزب المحافظين خطة موازنة لزيادة الضرائب لدعم المالية العامة بعد ركود وأزمة عملة.
وأشار التقرير إلى أن ارتفاع تكلفة الاقتراض وضعف النمو الاقتصادي يهددان بإلغاء الهامش المتاح البالغ 9.9 مليار جنيه إسترليني لوزيرة الخزانة، والذي كان مخصصاً وفقاً لـ«قاعدة الاستقرار»، التي تنص على ضرورة تمويل الإنفاق اليومي من خلال الضرائب في الفترة 2029-2030.
كما ذكر التقرير أن مكتب مسؤولية الميزانية، الجهة الرقابية المالية في المملكة المتحدة، خلص إلى أن الوزيرة ستنتهك قواعدها في تحديث الربيع، ما سيجعل ريفز مضطرة للرد إما بزيادة الضرائب أو بتخفيض الإنفاق. وهو ما يمثل وضعاً غير سار للوزيرة، التي وعدت بإعادة الاستقرار للاقتصاد البريطاني بعد ما وصفته بالفوضى التي شهدتها البلاد خلال فترات حكم المحافظين السابقة.
وكان جزءًا من تعهد ريفز هو منح الشركات والأسر مزيداً من اليقين والاستقرار من خلال إجراء تغييرات ضريبية مرة واحدة فقط في السنة.
وبحسب التقرير، فإن ردَّ فعل السوق تجاه الميزانية أكد على المخاطر التي تواجهها الوزيرة، حيث أعاد المستثمرون تحديد مواقفهم المالية، ما أسفر عن إضافة 142 مليار جنيه إسترليني من الاقتراض الإضافي. وقد أدى ذلك إلى ارتفاع حادٍ في عوائد سندات الحكومة، مما قضى على الهامش المتاح لريفز وفقاً لـ«قاعدة الاستقرار».
من الناحية النظرية، قد يؤدي ارتفاع معدل النمو الاقتصادي إلى تعزيز حصيلة الضرائب التي تحصل عليها الحكومة دون الحاجة إلى فرض المزيد من الضرائب، إذ سترتفع العائدات الإجمالية. وهو ما يعتمد عليه حزب العمال لتمويل الخدمات العامة المستنفدة في البلاد، مع ترك الفائض من النقد للشركات للاستثمار والنمو، وفقًا لتقرير نشرته شبكة (CNN).
وفيما يتعلق بهذه الإستراتيجية، قال الخبير الاقتصادي لدى «آي إن جي»، جيمس سميث، إن المملكة المتحدة ستُضطر إلى فرض المزيد من الضرائب إذا لم تتمكن من تحريك عجلة الاقتصاد.
في الوقت ذاته، أعرب نائب محافظ بنك إنجلترا السابق، جون غريف، عن شكوكه بشأن قدرة الوعود الإصلاحية على تحفيز النمو، مشيراً إلى أن الإصلاحات التي أعلنت عنها وزيرة الخزانة، بما في ذلك خدمات المالية ونظام التقاعد، ليست «عوامل مغيرة لقواعد اللعبة»، بحسب تعبيره.
وأضاف غريف أن وزيرة الخزانة ستضطر إلى تنفيذ مشاريع أكبر لتعزيز الاستثمار الخاص، مشدداً على أن مشاريع التخطيط والبنية التحتية هي التي ستساهم بشكل حقيقي في تعزيز الاقتصاد البريطاني.
أما فيما يتعلق بأرقام الربع الثالث، فقد أظهرت بيانات من مكتب الإحصاءات الوطنية، الأسبوع الماضي، أن الاقتصاد البريطاني سجل نمواً بنسبة 0.1%، وهي نسبة أقل من التوقعات التي كانت تشير إلى نمو بنسبة 0.2%، ما شكّل ضربة لحكومة حزب العمال التي تركز على زيادة النمو. ويعزو المحللون التباطؤ جزئياً إلى الضبابية التي سادت قبيل عرض الموازنة.
وتؤكد الأرقام أن الاقتصاد البريطاني قد شهد تباطؤاً كبيراً مقارنة بالنصف الأول من العام، عندما كانت المملكة المتحدة من بين أسرع اقتصادات مجموعة السبع نمواً في العالم.
وكانت وزيرة الخزانة البريطانية، أعلنت عن خطة حكومية تهدف إلى دمج العشرات من صناديق التقاعد، في خطوة تهدف إلى إطلاق استثمارات ضخمة لدعم النمو الاقتصادي المتباطئ في المملكة المتحدة.
وأثناء خطابها السنوي في مانشن هاوس أمام كبار المسؤولين الماليين في لندن، كشفت عن إنشاء ما يُسمى بـ«الصناديق العملاقة»، التي تمثل «أكبر إصلاح للمعاشات التقاعدية منذ عقود».
ومن المتوقع أن يؤدي دمج 86 صندوقاً للمعاشات التقاعدية المحلية في إنجلترا وويلز إلى إطلاق استثمارات تصل قيمتها إلى 80 مليار جنيه إسترليني. ستستثمر هذه الصناديق في مجموعة متنوعة من الأصول تشمل الأسهم والسندات والعقارات والبنية التحتية، بهدف تعزيز المنافع التقاعدية لأعضائها، ما قد يسهم في رفع إجمالي أصول نظام التقاعد الحكومي المحلي في إنجلترا وويلز إلى نحو 500 مليار جنيه إسترليني بحلول عام 2030.
ويستند هذا التوجه إلى تجارب ناجحة في أستراليا وكندا، حيث استفادت صناديق التقاعد من حجمها الكبير في تعزيز الاستثمارات، ودعم النمو الاقتصادي.
في سياق آخر، تسعى المجالس المحلية، ورؤساء البلديات في بريطانيا، إلى الوصول إلى مئات الآلاف من المتعطلين عن العمل، لمساعدتهم في العثور على وظائف. وأعلنت وزيرة العمل والمعاشات التقاعدية، ليز كيندال، عن خطة من 3 نقاط لـ«إعادة الناس إلى العمل»، مشيرة إلى ما وصفته بـ«ارتفاع الخمول الاقتصادي» بعد جائحة «كورونا»، والذي يُعد من أكبر التحديات التي يواجهها الاقتصاد البريطاني.
في الوقت نفسه، يتم وضع إصلاحات أكثر جذرية للإجازات المرضية، على أن تُنفذ في أوائل العام المقبل، وسط مخاوف من أن تكون خطة الحكومة الحالية غير كافية لوقف مشكلة الإجازات المرضية طويلة الأمد.
ويعاني 2.8 مليون شخص من البطالة، بسبب المرض طويل الأمد، ومع ارتفاع تكلفة إعانات المرض من 40 مليار جنيه إسترليني قبل الوباء إلى 65 مليار جنيه إسترليني العام الماضي، فمن المتوقع أن يتجاوز هذا الرقم 100 مليار جنيه إسترليني بحلول نهاية العام المقبل.
ومن المتوقع نشر تفاصيل برنامج «إعادة الناس إلى العمل» في الأسابيع المقبلة، لتوسيع خطة كيندال، ودفع السلطات المحلية إلى دعم التوظيف، وتنمية المهارات، وتحسين الصحة.