تتدحرج أزمة البنك المركزي الليبي، نحو هوة أعمق، مع إصرار المجلس الرئاسي بقيادة محمد المنفي على فرض إدارة جديدة للبنك، مقابل رفض من مجلسي النواب والدولة، وإعلان بغلق حقول النفط التي تعد إيراداتها العمود الفقري لاقتصاد البلاد بنسبة تصل إلى 98% عبر إنتاج يسجل نحو مليون و200 ألف برميل يومياً.
وبات الاقتصاد الليبي، أمام تهديد بـ"خسائر بمليارات الدولارات"، مع تراجع محتمل لعملته المحلية أمام الدولار، وكذلك التصنيف الائتماني للبلاد، وارتفاع متوقع بأسعار السلع، بجانب تبعات ثقيلة على الأسواق العالمية، حال تعقدت تلك الأزمة أكثر من ذلك دون حل سريع، وفق خبراء تحدثوا لـ"إرم بزنس"، بينهم مسؤول حالي وآخر سابق.
ويشرف البنك المركزي الليبي على إدارة إيرادات النفط وميزانية الدولة، وبحسب إحصائيات سابقة له كبّدت إغلاقات حقول النفط الاقتصاد خسائر تتجاوز أكثر من 100 مليار دولار، خاصة منذ سقوط نظام معمر القذافي في 2011، وانقسام إدارة البلاد، بين حكومتين الأولى في طرابلس (غرب) برئاسة عبد الحميد الدبيبة، والثانية في شرق البلاد يترأسها أسامة حمّاد، وتحظى بدعم البرلمان والمشير خليفة حفتر.
وكان أحدث وجوه تضارب الصلاحيات بين الحكومتين، إقدام قوة أمنية، الأحد، بصحبة لجنة مشكلة من المجلس الرئاسي الذي يترأسه محمد المنفي لتغيير مجلس إدارة البنك، مقابل رفض مجلسي النواب والدولة في بيانين منفصلين تلك الخطوة، والتي تلاها تقديم محافظ البنك المعين من البرلمان منذ 2012، الصديق عمر الكبير، ببلاغ للنائب العام، معتبرا أن هذا يشكّل "تهديداً خطيراً لأهم مؤسسة مالية في البلاد، وسيترتب عليه آثار سلبية في الداخل والخارج".
وكان التطور اللافت، الاثنين، بإعلان حكومة ليبيا في الشرق، "حالة القوة القاهرة وإيقاف إنتاج وتصدير النفط من جميع الحقول والموانئ حتى إشعار آخر لصيانة المال العام"، محذرة من أن "هذه الاعتداءات من شأنها تعريض الاقتصاد الوطني للانهيار المتسارع".
وهو ما رد عليه رئيس حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس عبد الحميد الدبيبة، بالتأكيد على ضرورة "زيادة إنتاج النفط ومحاسبة من يغلق الحقول"، مؤكداً "أهمية مراقبة الحقول النفطية وعدم السماح بإغلاقها تحت حجج واهية"، وذلك عقب اجتماعه الاثنين، مع الوزير المكلف، خليفة عبد الصادق لمناقشة ملفات وزارة النفط والغاز.
وسبق أن تعرض مصرف ليبيا المركزي، في 11 أغسطس الجاري، لمحاصرة مسلحين لمقره بطرابلس، وبعد أسبوع آنذاك، شهد اختطاف مدير تكنولوجيا المعلومات بالبنك من جانب مسلحين، قبل أن يطلق سراحه، عقب قرار محافظ المصرف بوقف نادر لأعمال البنك.
ووقتها حذر السفير الأميركي لدى ليبيا، ريتشارد نورلاند، في تغريدة من دفع محافظ المركزي للاستقالة، مؤكداً أن استبداله "بالقوة يمكن أن يؤدي إلى استبعاد ليبيا من الأسواق المالية العالمية".
ورغم التحذيرات، أعلن المجلس الرئاسي في 18 أغسطس الجاري تغيير المحافظ، الصديق الكبير، وإصراره على تولي محمد الشكري، بعد 5 أيام من إعلان البرلمان انتهاء ولاية الدبيبة.
وعقب القرار، ارتفعت أسعار النفط، الاثنين، بمقدار 3% متأثرة بتقارير عن وقف "شبه كامل" لإنتاج النفط في ليبيا التي تمتلك أكبر احتياطيات نفطية مؤكدة في إفريقيا، والمقدرة بنحو 48.4 مليار برميل، تعادل 3.9% من إجمالي احتياطيات منظمة "أوبك"، بحسب تقديرات حديثة للمنظمة.
وفي حديث إلى "إرم بزنس"، قال وزير الدولة لشؤون الاقتصاد السابق في حكومة عبد الحميد الدبيبة، سلامة الغويل، إن المساس بالمصرف المركزي من حكومة غرب ليبيا له "تأثير سلبي وخطير على الاقتصاد، ويتنافى مع القوانين وقيم استقرار الدولة"، معتبرا أن هذا الإجراء "فاقد للشرعية".
وباعتقاد الغويل الذي يرأس حالياً مجلس المنافسة ومنع الاحتكار الليبي، أن التنمية والإعمار المتواصل في الشرق يجب أن يبنى عليه مع تشكيل إرادة إقليمية ودولية لدعم بسط حكومة الشرق سلطاتها، بما يجنب الاقتصاد والاستقرار "مخاطر فرض قرارات فاقدة للشرعية".
وبمزيد من التفاصيل، أوضح الخبير الاقتصادي ووكيل وزارة المالية والتخطيط سابقاً، إدريس الشريف، لـ"إرم بزنس"، أن "ما حدث مظهر من مظاهر الانقسام وتنازع حول التخصصات والصلاحيات"، مشيراً إلى أن قانون المصارف والاتفاق السياسي الموقع عليه في الصخيرات والمعمول به والمعتمد لدى مجلس الأمن حتى الآن والمعني بتنظيم عمل السلطات، يجعل تغيير إدارة البنك من اختصاص السلطة التشريعية ومجلس الدولة.
ويحذر إدريس الشريف، من أن اقتصاد ليبيا "أمام تهديد بخسارة بالمليارات من الدولارات، خاصة وصادرات ليبيا الشهرية وإيراداتها من النفط والغاز تتجاوز 2 مليار ونصف المليار دولار شهرياً".
وتوقع أن "تكون الخسائر كبيرة على الاقتصاد لو لم يتم حل سريع لها مع اعتبار أن إيرادات النفط تشكل 98% من إيرادات الميزانية والمصدر الوحيد للعملة الأجنبية تقريبا لتغطية واردات ليبيا، ويشكل نحو 75 إلى 80% من الناتج المحلي الإجمالي، وبالتالي انخفاضها يهدد النمو الاقتصادي".
ويعتقد الخبير الاقتصادي الليبي خالد بوزعكوك، في حديث لـ"إرم بزنس" أن "فرض القوة القاهرة على مصرف البنك المركزي وحقول النفط معا سابقة لم تحدث من قبل حدوثها على هذا النحو لأول مرة، سيؤثر في القيمة السوقية للاقتصاد وعملته، وسيفاقم التضخم وسيزيد عبء فاتورة الاستهلاك على المواطنين باعتبار أن الاقتصاد قائم على عائدات النفط"، فضلا عن تأثيراته العالمية بسوق النفط.
وحذر من أن استمرار تلك الأزمة دون حل "سيصيب قطاعات الدولة والاقتصاد بشلل"، داعيا لزوال تلك القوة القاهرة على نحو سريع.