أزمة سعر صرف الدولار الأميركي مقابل العملات الوطنية تتفاقم بقدر كبير في كثير من بلدان العالم، ولعل المشكلة بلغت أقصى مستوياتها في كل من تركيا ولبنان وسوريا، فهذه البلدان تتشابه في مسميات عملاتها وهي "الليرة" ولكن بقيمة مختلفة حسب اقتصاد كل دولة، فسعر الدولار في تركيا تجاوز الـ 30 ليرة، وفي لبنان تجاوز 89 ألف ليرة، وفي سوريا ما يعادل 13200 ليرة.
وعن انخفاض قيمة الليرة التركية، يرى الخبير الاقتصادي مرات غورور أنه نتيجة مباشرة للأوضاع الاقتصادية التي يشهدها العالم جراء العديد من التغيرات والأزمات الجيوسياسية، مثل الحرب في أوكرانيا والحرب في غزة وما ترتب عليهما من توقف في سلاسل الإمداد وكذلك زيادة التضخم.
وأضاف "غورور" لـ"إرم الاقتصادية" أن تدني قيمة العملة التركية مقابل الدولار يحمل العديد من التداعيات، بعضها إيجابي، كتنشيط حركة التصدير وتعزيز النمو في قطاع السياحة باعتبار أن السوق التركية مقبولة أوروبيا، أضف إلى ذلك انخفاض تكاليف العمالة وتراجع الطلب على السلع المستوردة، فكل هذه العوامل لها انعكاسات في ميزان الحساب الجاري.
وأما التداعيات السلبية، بالنسبة لـ"غورور" فهي تتمثل بالخسارة الكبيرة في القوة الشرائية للأسر، واستمرار تقلب أسعار الصرف، فهذا التقلب سببه حسب الخبير هو زيادة التحول نحو استخدام الدولار في حسابات التوفير سواء للأفراد أو لأصحاب الأعمال.
وأوضح أن المشكلة تكمن في مزيج السياسات، واحتياطيات العملات الأجنبية والذهب المتضائلة، محذرًا من العودة للأزمة الطاحنة التي ضربت تركيا في تسعينات القرن الماضي.
أما بخصوص الأزمات المعقدة التي تعصف بلبنان وبسوريا، يرى الخبير الاقتصادي مرات غورور، أنها نابعة من تراكمات سياسية داخلية متشابكة، لها علاقة بالربيع العربي في سوريا، أما في لبنان فسبب الأزمات الاقتصادية مرتبط بأزمات سياسية داخلية متراكمة، ناهيك عن التطورات الأخيرة في قطاع غزة واندلاع الحرب على الجبهة الجنوبية للبنان.
تدني قيمة العملة التركية مقابل الدولار يحمل العديد من التداعياتمرات غورور - خبير اقتصادي
وفي ذات السياق، تقول رئيسة جمعية الإعلاميين الاقتصاديين في لبنان، سابين عويس، إن "هناك مجموعة من العوامل التي أدّت إلى استقرار سعر صرف الدولار في الأسواق اللبنانية بعد انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، منها عوامل فنية وأخرى سياسية".
وأوضحت عويس، في تصريحات لـ"إرم الاقتصادية"، أن "العوامل الفنية تتمثل في عدم تغيير السياسة النقدية التي يعتمدها حاكم المصرف المركزي بالإنابة، وسيم منصوري، عن سياسة سلامة".
وأوضحت عويس أن "الطموحات السياسية التي كانت لدى رياض سلامة جعلته رهينة للقوى السياسية في البلاد، في حين تمكّن منصوري من اتخاذ قرار بوقف تمويل الدولة دون قوانين".
وأشارت إلى أن "منصوري هدّد الحكومة ووزارة المالية بأنه غير مستعد لإنفاق أي أموال من الخزينة دون قوانين، فكانت هناك عملية لضبط الإنفاق على الدولة بقدر كبير، ومارس المصرف المركزي دوره الحقيقي كوسيط لشراء الدولار لمصلحة الدولة".
وفيما يخص النقطة التقنية، فهي تتعلق بسياسة تجفيف الكتلة النقدية التي اعتمدها منصوري بسحب الليرات من السوق وتخفيف قيمتها، لدرجة مكّنته من تقليل فرصة المضاربات على الدولار، وفق "عويس".
وأضافت أن "الخلفية السياسية لقرارات منصوري تتمتع بالنفوذ في البلاد فهو مدعوم من حزب الله وحركة أمل، وهذا الدعم ساهم بمنع المضاربين من التدخل في السوق والتلاعب، ما عكس ثقة الأسواق وتثبيت سعر الصرف".
وقالت إن "الكتلة النقدية المتداولة بالليرة بلغت بنهاية 2022 نحو 70 تريليون ليرة، وانخفضت إلى 48 تريليون ليرة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي"، لافتةً إلى أن "مجلس النواب قام بمناقشة قانون موازنة 2024، التي أظهرت أن أرقامها حسابية فقط وتخلو من أي برنامج أو إجراء إصلاحي، وتحاول الحكومة عبر موازنتها الحسابية أن تقدم عجزًا بنسبة صفر، لكن ليس لدى الحكومة أي رؤية لآفاق الاقتصاد اللبناني في المرحلة المقبلة".
إلى جانب ذلك، ليس هناك أي تعديلات تشريعية لتصحيح أو تعديل أو حتى وضع نظرة مستقبلية استراتيجية مالية واقتصادية أو استثمارية للمرحلة المقبلة، لذلك لا يبدو أن مستقبل لبنان الاقتصادي مشرق بسبب الغموض حوله، وفق "عويس" التي أكدت أن "التضخم في البلاد تجاوزت مستوياته 270% إلى جانب الليرة التي هي في حالة انهيار مستمر".
ورأت أن "معظم المؤشرات المالية لا توحي كثيرًا بالطمأنينة، نتيجة شلل السلطة التنفيذية وغياب رئيس الجمهورية الذي يُعطّل عمل المؤسسات الدستورية"، مشددةً على ضرورة إعادة انتظام المؤسسات بانتخاب رئيس للجمهورية، وتشكيل حكومة تتمتع بصلاحياتها التنفيذية الكاملة لإنقاذ الاقتصاد".
ومن جانبها قالت الصحفية الاقتصادية اللبنانية باسمة عطوي، إن ثلثي الشعب اللبناني تراجع دخله بقدر كبير جراء الأزمات المتتالية، موضحة أن الأمور في لبنان تبدو خطيرة للغاية رغم محاولات رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي السيطرة على الأوضاع، من خلال قانون استرداد الودائع للمودعين للذين لديهم حسابات رصيدها أقل من 100 ألف دولار.
معظم المؤشرات المالية لا توحي كثيرًا بالطمأنينة نتيجة شلل السلطة التنفيذيةسابين عويس - رئيسة جمعية الإعلاميين الاقتصاديين في لبنان
وتشير "عطوى" في تصريحات لـ"إرم الاقتصادية" إلى أن لبنان وقع اتفاقا أوليا مع صندوق النقد في نيسان 2022؛ لمساعدته في الخروج من الأزمة المالية والنقدية والمصرفية التي يعاني منها، بشرط أن تقوم الحكومة والمجلس النيابي بسلسلة إصلاحات تمهيدًا لتوقيع الاتفاق النهائي بين الطرفين وهذا لم يحدث.
ونوهت إلى الخلاف بين الحكومة اللبنانية والمجلس النيابي حول خطة الإنقاذ التي من المفترض أن تقدمها الحكومة للبرلمان، وإلى الآن لم يجرِ إقرارها.
وبحسب "عطوي" فإن الطبقة السياسية التي أوصلت الشعب اللبناني إلى هذا الحضيض لا تزال تتحكم بمقاليد الحكم، وهذا من وجهة نظرها لا يدعو إلى التفاؤل، قائلة إنه من غير المنطقي لهذه الطبقة أن تجد حلولا تدين بها نفسها.
وبناء على كل هذه المعطيات فإن "عطوي" لا ترى أنه سيكون للاقتصاد اللبناني دور بارز في السنوات القليلة القادمة، وأن ما يجري هو مجرد محاولات لشراء الوقت على حساب الشعب.
وتقول الأستاذة بكلية العلوم الاقتصادية في جامعة القديس يوسف، الدكتورة سهام رزق الله، إن "استخدام الدولار في لبنان كعملة داخلية، أسهم في الحد من سيطرة السوق السوداء على الاقتصاد، حيث انخفضت نسبة استخدام الليرة في المعاملات اليومية إلى 10% فقط".
وأوضحت المختصة اللبنانية في السياسة النقدية، في تصريحات لـ"إرم اقتصادية"، أن "الدولار حل محل الليرة في الوظائف الثلاث المعروفة للعملة الوطنية، وهي الادخار والتسعير والتداول، حيث أصبح يستخدم في جميع المعاملات التجارية والمالية، حتى في الخدمات العامة".
وأشارت إلى أن "الموازنة اللبنانية الحالية، سواء كانت العامة أو الموازنات الفرعية، لا تتضمن أي نفقات استثمارية تسهم في تنمية الاقتصاد، وتوقفت خدمات الدين بسبب العجز في الميزانية، واقتصرت النفقات الأساسية على تسديد رواتب القطاع العام".
وأضافت رزق الله أن "هذه الرواتب يجري سحبها من الصرافات الآلية بالدولار، مما يعني أن الدولرة أصبحت شبه شاملة في لبنان، وهو ما أسهم في استقرار الاقتصاد".
وأشارت إلى أنه "من الصعب اليوم التصويت على تعديل قانون النقد والتسليف، الذي يحدد السياسة النقدية وعمل المصرف المركزي، ليصبح الدولار عملة رسمية إلى جانب الليرة، لأن لبنان يعيش دون رئيس للجمهورية، والحكومة الحالية هي حكومة تصريف أعمال فقط".
ويقول الباحث السياسي اللبناني، الدكتور زكريا حمودان، إن "استقرار سعر صرف الدولار في البلاد بعد انتهاء ولاية سلامة، يرجع إلى عدم تنفيذ الحاكم الجديد للمصرف القرارات السابقة التي كانت تعتمد على ألاعيب في السوق، مثل التدخل في العرض والطلب"، وفق تقديره.
وأوضح مدير المؤسسة الوطنية للدراسات، في تصريحات لـ"إرم الاقتصادية"، أن "الحاكم الحالي يعمل في إطار النظام، وهو ما ثبت الحركة النقدية في لبنان، وأسهم في عدم وجود طلب كبير مقارنة بالعرض"، مشيرًا إلى أن "استقرار العرض يؤدي إلى تثبيت سعر الصرف".
ورأى أن "عدم تدخُّل الحاكم الجديد للمصرف في السوق، يُعدُّ السبب الرئيس في استقرار سعر صرف الدولار في البلاد"، وأضاف أن "منصوري ليس من المضاربين في السوق، لذلك لم يلجأ إلى التلاعب بالدولار، كما كان يفعل سلامة".
أما فيما يتعلق بمستقبل لبنان الاقتصادي، فهو بحاجة إلى خطة شاملة، وفق حمودان الذي يؤيد فكرة وجود خطة من الحكومة على المستوى المالي تتشارك فيها المصارف ومصرف لبنان لإنقاذ الاقتصاد اللبناني".
وعلى جانب آخر رأت الخبيرة الاقتصادية هدى الحسيني، أن أزمة سوريا تتجسد في معدلات كبيرة من التضخم، وانهيار كبير في العملة، مشيرة إلى أن تراجع الليرة أسرع بكثير من قدرة الحكومة على رفع الرواتب.
غياب المصادر الحقيقية للعملة والإنتاجية بقدر كبير، تسبب في تفاقم الأزمة بصورة كبيرة بحسب "الحسيني"، بالإضافة إلى عجز الحكومة عن التعامل مع القيود التي تعاني منها البلاد إثر العقوبات المفروضة عليها، جنبا إلى جنب مع سياسات داخلية تعيق حركة الإنتاج.
وشددت في تصريحات لـ"إرم الاقتصادية" على أن الحاجة ملحة لإعادة هيكلة الاقتصاد حتى يمكن تحقيق إنتاج حقيقي، خاصة وأن الحكومة تستورد كل شيء، وقيمة الليرة في تراجع مستمر، والمستهلك هناك يتحمل تبعات هذا التراجع بصفة مباشرة.
العالم تعصف به مجموعة من الأزمات السياسية والصراعات والمواجهات العسكرية وكل هذه العوامل تنعكس مباشرة على اقتصادات الدول، فيزداد التضخم، وترتفع التكلفة المعيشية، وتتصاعد الحروب التجارية وتدفقات رأس المال الخارجة من الأسواق الناشئة، وتتفاقم الاضطرابات الاجتماعية والمواجهات الجيوسياسية.
كل هذا يؤثر بنحو مباشر على سلاسل الإمداد وحركة التصدير والاستيراد وسعر صرف الدولار الأميركي مقابل العملات المحلية للدول ذات الاقتصادات الناشئة.