في مواجهة ظروف اقتصاديّة صعبة وسياسات تمويليّة محفوفة بالتحديات، تبرز تونس كحالة استثنائيّة برفضها الالتزام بشروط «صندوق النقد الدولي»، في سبيل انتهاج سياسة تعتمد على التمويل الذاتي والاقتراض المحلي، وسط محاولات من الرئيس قيس سعيّد لتجنب «التبعية الاقتصادية»، ما يثير تساؤلات حول الثمن الذي قد تدفعه تونس مقابل هذا الخيار، وتأثيره في الاقتصاد الوطني واستقرار البلاد.
وتوقفت المحادثات بين تونس و«صندوق النقد الدولي» للحصول على قرض بقيمة 1.9 مليار دولار، بعد أن كان الطرفان قد توصلا إلى اتفاق مبدئي في أكتوبر 2022.
وتعثرت المفاوضات بسبب الشروط المرتبطة بإجراء إصلاحات اقتصادية تشمل خفض الدعم ورفع الضرائب وتقليل قيمة العملة المحلية، وهي إجراءات رفضها الرئيس قيس سعيّد واعتبرها «غير مقبولة»، محذراً من تداعياتها السلبية على الطبقات الضعيفة في المجتمع.
ويعارض الاتحاد العام التونسي للشغل وبعض القوى السياسية هذه الإصلاحات، معتبرين أنها تمس الطبقات الفقيرة وتزيد معاناتهم. وتعكس هذه العقبات التحدي الذي تواجهه الحكومة في تحقيق توازن بين تنفيذ الإصلاحات المطلوبة للحصول على القرض، والحفاظ على الاستقرار الاجتماعي والسياسي في البلاد.
وفي يوليو الماضي، أعلنت تونس تسديد قروض مستحقة بقيمة 11.6 مليار دينار (3.7 مليار دولار) من القروض الخارجية خلال النصف الأول من العام الجاري، ووفق إحصائيات سابقة لوزارة المالية، فإن تونس مطالبة بتسديد 24.7 مليار دينار (7.96 مليار دولار) خلال 2024.
ووفق أحدث بيانات المركزي التونسي في 4 أكتوبر، فإن صافي احتياطي تونس من العملة الصعبة تراجع ليناهز 24.39 مليار دينار (7.90 مليار دولار) أي ما يكفي لـ110 أيام من الواردات.
يرى الرئيس قيس سعيّد أن سياسة الاعتماد على الاقتراض الخارجي تُقيد سيادة البلاد، إذ تخضع الحكومات التي تعتمد على القروض الدولية لإملاءات المؤسسات المقرضة مثل «صندوق النقد الدولي»، التي قد تفرض إجراءات تقشفية غير مرحب بها في تونس، وفق الخبير الاقتصادي أنيس الوهابي.
وبحسب حديث الوهابي لـ«إرم بزنس»، يؤمن سعيد بأن الحل الأمثل يكمن في بناء اقتصاد وطني قوي يعتمد على الإنتاج المحلي، بعيدًا عن شروط المؤسسات الدولية التي غالبًا ما تشمل إصلاحات تضر بالشريحة الأضعف من المواطنين، مثل تخفيض الدعم الحكومي أو تقليص النفقات الاجتماعية.
وباعتقاد الوهابي فإن رفض الرئيس التونسي الاقتراض الخارجي يحمل طابعاً أيديولوجياً يعكس رؤيته السياسية في إدارة الدولة، التي تركز على تعزيز الاستقلال الوطني ومقاومة «التبعية الاقتصادية» للخارج، إذ يُبقي قرارات تونس الاقتصادية داخلية بعيداً عن الضغوط الخارجية.
ويعبر هذا الرفض أيضاً، وفق الخبير الاقتصادي، عن فلسفة قوامها الاكتفاء الذاتي، وهذه الرؤية تعتبر أن الاعتماد على الاقتراض الخارجي يُضعف سيادة تونس، وبالتالي تفضيل الاستدانة الداخلية وتفعيل إمكانات الاقتصاد الوطني.
ووفقاً لمشروع قانون موازنة تونس لعام 2025، فإنه من المتوقع أن يتضاعف حجم القروض المحلية ليبلغ 7.08 مليار دولار، مقارنة بـ3.57 مليار دولار في العام الماضي، ضمن الجهود المبذولة لتمويل الميزانية.
وتظهر بيانات البنك الدولي انخفاض إجمالي الدين الخارجي لتونس في عام 2022 إلى 39.6 مليار دولار مقابل 41.6 مليار دولار في العام السابق.
يشير الوهابي إلى أن الاعتماد على التمويل الداخلي قد يسهم في زيادة حجم الدين المحلي بشكل كبير، مما قد يضع ضغوطاً على المالية العامة للدولة. ويوضح أنه عند تزايد الدين الداخلي، تضطر الحكومة إلى توفير مصادر تمويل من السوق المحلية، سواء عن طريق طرح سندات جديدة أو الاعتماد على البنوك التونسية، مما يؤثر سلباً في سيولة السوق ويضعف قدرة القطاع الخاص على التمويل، وبالتالي يمكن أن يؤثر ذلك في نشاط الاستثمار ويحد من النمو الاقتصادي.
وزاد حجم الاقتراض الداخلي في تونس بـ1.3 مليار دولار بين عامي 2022 و2023، كما تخطط الحكومة لاقتراض 11.743 مليار دينار (3.745 مليار دولار) إضافية من السوق المحلية لتغطية فجوة مالية تبلغ 28.708 مليار دينار (9.155 مليار دولار)، وفق الوهابي.
وتتوقع الحكومة أن يرتفع إجمالي الدين العام المتراكم بحلول نهاية العام الحالي إلى نحو 140 مليار دينار (45.17 مليار دولار)، وهو ما يمثل نحو 79.8% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بـ 127 مليار دينار (41 مليار دولار) في العام السابق، وفق إعلام تونسي.
وبحسب الخبير الاقتصادي، فإن سياسة التعويل على الذات تؤدي لانعاكسات سلبية على الاقتصاد، إذ تعزز الاعتماد الكبير على القطاع المصرفي المحلي، الذي قد يواجه تحديات في تلبية احتياجات الحكومة المتزايدة من التمويل. وبهذا، تصبح الدولة تعتمد بشكل أكبر على مواردها الداخلية، وقد يضطر البنك المركزي التونسي إلى طباعة المزيد من العملة لسد العجز المالي، مما قد يرفع معدلات التضخم ويضعف قيمة الدينار التونسي.
إلى ذلك، يرى أستاذ الاقتصاد آرام بلحاج أن «الاعتماد الكامل على التمويل الداخلي قد يكون محفوفاً بالمخاطر»، إذ يشير إلى أن اعتماد تونس على مصادر التمويل المحلية قد يؤدي إلى تضاعف الدين الداخلي، ما قد يضع ضغوطاً على ميزانية الدولة ويقلل حصة الاستثمارات العامة التي تؤدي دوراً كبيراً في النمو الاقتصادي.
وباعتقاد بلحاج، فإن «الاقتراض الخارجي سيكون الخيار الأكثر أماناً لتونس في الوقت الحالي»، خاصة في ظل الضغوط التضخمية الحالية، ويرى أن «رفض الرئيس قيس سعيد الاعتماد على التمويل الدولي وإملاءات صندوق النقد هو رؤية شجاعة لكنها تتطلب توفير موارد بديلة لدعم النمو، وتجنب الوقوع في أزمة سيولة محلية».
في هذه الظروف، يرى أستاذ الاقتصاد أن غياب التمويل الخارجي يمكن أن يحدّ من قدرات تونس على تنفيذ برامج التنمية وتحفيز الاقتصاد. فعندما تفتقر الحكومة إلى السيولة الكافية، قد تلجأ إلى تقليص الإنفاق العام، مما يؤدي إلى تباطؤ عجلة النمو الاقتصادي.
وتظهر التقديرات الأولية التي أصدرها المعهد الوطني للإحصاء التونسي، في أغسطس الماضي، تباطؤ النمو الاقتصادي بنسبة 1% خلال الربع الثاني من هذا العام مقارنةً بالفترة ذاتها من عام 2023، وبنسبة 0.6% خلال النصف الأول من 2024.
ويوضح بلحاج أن «التمويل الدولي كان يمكن أن يساعد على تخفيف الضغط على الموازنة، ولكن الاعتماد على الديون المحلية يعني دخول تونس في دائرة الديون الداخلية المتزايدة، مما قد يضعف قدرتها على تحقيق النمو».
يخشى أستاذ الاقتصاد أنه على المدى البعيد، قد تتعرض تونس إلى أزمات تمويلية متزايدة إذا ما استمرت في استبعاد التمويل الدولي، إذ قد تتفاقم الضغوط المالية نتيجة زيادة الدين الداخلي مما يعرّض الدولة إلى عجز في سداد الديون.
وفي مايو الماضي، حصلت تونس على قرض مشترك بقيمة 175 مليون دولار من 16 بنكاً محلياً لتمويل ميزانية عام 2024، في ظل مواجهة البلاد نقصاً في مصادر التمويل الخارجي. وأوضحت وزيرة المالية، سهام البوغديري، أن هذا القرض المشترك سيساعد على تحقيق استقرار في احتياطي النقد الأجنبي.
ويرجح بلحاج أن هذه الأزمة يمكن أن تتفاقم إذا لم تقم تونس بتطوير مصادر إنتاجية مستدامة قادرة على توليد الإيرادات الكافية لتمويل احتياجات الدولة، بعيداً عن الاعتماد الكامل على التمويل الداخلي.
ويؤكد أن تونس تواجه اليوم تحدياً كبيراً في سبيل تحقيق الاستقرار المالي والاقتصادي في ظل الاستمرار في سياسة التعويل على الذات. ورغم أن هذا التوجه قد يعزز استقلالية القرار الاقتصادي، فإنه ينطوي على تحديات كبيرة تتطلب حلولاً مبتكرة ومصادر تمويل بديلة.
في ظل هذه التحديات، يقترح أستاذ الاقتصاد حلولاً مبتكرة يمكن أن تساعد تونس على تحقيق التوازن المالي، مثل التوجه نحو تعزيز قطاع السياحة وجذب الاستثمارات الأجنبية، إذ يرى أن تحسين بيئة الأعمال والاستثمار وهيكلة الشركات الأهلية، يمكن أن يفتح آفاقاً جديدة للنمو، مما يقلّل من حاجة الدولة إلى الاقتراض الخارجي.