مركز بيانات كبير يستهلك نفس كمية طاقة 876 ألف منزل نموذجي سنوياً
تحوّل قطاع الطاقة إلى بطل في قصة صعود الذكاء الاصطناعي، وأصبح الوصول إلى الكهرباء عاملاً حاسماً في تشغيل مراكز البيانات التي جعلت أنظمة الطاقة الحالية تكافح لتلبية طلبها الذي يزداد شراهة.
كان الذكاء الاصطناعي أحد الاتجاهات العالمية الثلاثة الكبرى التي لفت إليها سلطان أحمد الجابر، وزير الصناعة والتكنولوجيا المتقدمة في الإمارات، والعضو المنتدب والرئيس التنفيذي لمجموعة «أدنوك»، والتي أكد أنها تمثّل فرصاً لقطاع الطاقة العالمي مع وجود حاجة لنمو الاستثمار في قطاع الكهرباء إلى ما لا يقل عن 1.5 تريليون دولار سنوياً، وذلك في كلمته التي افتتح بها معرض ومؤتمر أبوظبي الدولي للبترول «أديبك» 2024 في أبوظبي.
ليتّضح المشهد، أشارت شركة «غولدمان ساكس» للأبحاث في تقرير لها، إلى أن معالجة بحث ما عبر «تشات جي بي تي» (ChatGPT) تتطلب في المتوسط ما يقرب من 10 أضعاف كمية الكهرباء مقارنة بالبحث بواسطة محرك «غوغل»، أي 2.9 واط في الساعة مقارنة بـ0.3 واط، وفقاً لوكالة الطاقة الدولية. ووراء هذا الفارق يكمن تغيير كبير قادم في كيفية استهلاك العالم بأسره للطاقة، وكم سيكلف ذلك.
يتطلب الذكاء الاصطناعي قوة حاسوبية هائلة، ومع تسارع تطويره تنمو الحاجة إلى معالجة البيانات بشكل أوسع؛ ما يدفع الشركات إلى إنشاء المزيد من المراكز الأكبر حجماً لتلبية هذه المتطلبات الضخمة، والتي بدورها تستهلك قدراً كبيراً من الكهرباء.
على وجه الخصوص، يستهلك التدريب على الذكاء الاصطناعي التوليدي، قدراً كبيراً من الطاقة يفوق قدرة مراكز البيانات التقليدية. ويوضّح التطور المتزايد في «نماذج اللغة الكبرى» (LLM) على غرار النموذج الأساسي «تشات جي بي تي»، هذا الطلب المتزايد على الطاقة.
على سبيل المثال، يتطلب تدريب نموذج مثل GPT-3 ما يقرب من 1300 ميغاواط في الساعة من الكهرباء. وهذا يعادل تقريباً استهلاك الطاقة السنوي لـ130 منزلاً في الولايات المتحدة. وتشير التقديرات وفق صندوق النقد الدولي إلى أن تدريب GPT-4 الأكثر تقدماً يستهلك كهرباء أكثر بـ50 مرة. وبشكل عام، تتضاعف قوة الحوسبة اللازمة للحفاظ على نمو الذكاء الاصطناعي كل 100 يوم تقريباً.
ويمكن أن يحتاج مركز بيانات كبير إلى نفس كمية الطاقة اللازمة لتلبية استهلاك نحو 876 ألف منزل نموذجي لمدة عام. ورغم أن مراكز البيانات أظهرت لسنوات شهية مستقرة للطاقة، حتى مع تزايد أنشطتها، فإن الوضع تغيّر مع ثورة الذكاء الاصطناعي، إذ تُقدر شركة «غولدمان ساكس للأبحاث» أن ينمو الطلب على طاقة مراكز البيانات بـ 160% بحلول عام 2030.
تتوقع الشركة زيادة إجمالية في استهلاك الطاقة من قبل مراكز البيانات لتشغيل الذكاء الاصطناعي بنحو 200 تيراواط في الساعة سنوياً بين عامي 2023 و2030. وبحلول عام 2028، يتوقع محللو الشركة أن يمثل الذكاء الاصطناعي نحو 19% من الطلب على الطاقة في مراكز البيانات.
على مدى العقد الماضي، ظل نمو الطلب على الطاقة في الولايات المتحدة صفرياً، رغم زيادة عدد السكان والنشاط الاقتصادي، وكان السبب وراء ذلك زيادة كفاءة الاستهلاك؛ غير أن «غولدمان ساكس للأبحاث» باتت تتوقع الآن ارتفاع الطلب على الطاقة في الولايات المتحدة بـ 2.4% تقريباً بين عامي 2022 و2030، قرابة 0.9% منها ستكون مرتبطة باستهلاك مراكز البيانات، التي ستستخدم 8% من الطاقة الأميركية بحلول عام 2030، مقارنة بـ3% في عام 2022، وفق التوقعات.
وبحسب البيانات التي جمعتها شركة «ستاندرد آند بورز غلوبال»، تتوقع شركات المرافق الكهربائية أن يرتفع الطلب السنوي على الكهرباء من قبل مراكز البيانات في الولايات المتحدة، من 185 تيراواط في الساعة في عام 2023 إلى 440 تيراواط في الساعة في عام 2035. هذا يعني إضافة 255 تيراواط في الساعة من الطلب السنوي على الكهرباء على مدى العقد المقبل، وهو ما يعادل تقريباً كمية الكهرباء التي استهلكتها ولاية كاليفورنيا بأكملها في عام 2022.
أمام هذا الطلب الهائل، ستحتاج شركات المرافق الأميركية إلى استثمار نحو 50 مليار دولار في سعة توليد جديدة لدعم مراكز البيانات وحدها. بالإضافة إلى ذلك، يتوقع أن يؤدي استهلاك الطاقة المتزايد لمراكز البيانات في الولايات المتحدة إلى خلق نحو 3.3 مليار قدم مكعبة يومياً من الطلب الجديد على الغاز الطبيعي بحلول عام 2030؛ ما سيتطلب بناء سعة خطوط أنابيب جديدة.
على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، تضرر الطلب على الطاقة في أوروبا بشدة بسبب سلسلة من الصدمات، منها الأزمة المالية العالمية، وجائحة كوفيدـ19، وأزمة الطاقة الناجمة عن الحرب في أوكرانيا، إلى جانب تراجع التصنيع. ونتيجة لهذا، انخفض الطلب على الكهرباء بشكل تراكمي بنحو 10% منذ ذروته في عام 2008.
لكن، في الفترة ما بين عامي 2023 و2033، وبفضل توسع مراكز البيانات، قد ينمو الطلب على الطاقة في أوروبا 40% وربما حتى 50%، وفقاً لـ«غولدمان ساكس». في الوقت الحالي، تضم أوروبا نحو 15% من مراكز البيانات حول العالم. وبحلول عام 2030، ستطابق احتياجات الطاقة في هذه المراكز الاستهلاك الإجمالي الحالي لكل من البرتغال واليونان وهولندا مجتمعة.
ولمواءمة شبكة الطاقة الخاصة بها مع متطلبات الذكاء الاصطناعي، تحتاج أوروبا إلى مئات المليارات من الدولارات، نظراً لكونها تملك أقدم شبكة كهرباء في العالم. ويتوقع محللو «غولدمان ساكس» إنفاق ما يقرب من 800 مليار يورو في أوروبا على نقل وتوزيع الطاقة على مدى العقد المقبل، فضلًا عن قرابة 850 مليار يورو كاستثمارات في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح.
في الوقت الحاضر، تستهلك مراكز البيانات في جميع أنحاء العالم بين 1% و2% من إجمالي الطاقة، ولكن من المرجح أن ترتفع هذه النسبة إلى ما بين 3% و4% بحلول نهاية العقد. وسيعمل هذا الطلب المتزايد على خلق نمو في الكهرباء لم نشهده منذ زمن طويل خاصة في أميركا وأوروبا. وعلى هذا المسار، سوف نشهد أيضاً تضاعفاً في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من مراكز البيانات.
أعلنت شركة «مايكروسوفت»، التي استثمرت في شركة «أوبن إي آي» (OpenAI) المشغلة لـ«تشات جي بي تي»، وأدمجت أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي في منتجاتها، أخيراً أن انبعاثاتها من ثاني أكسيد الكربون زادت 30% تقريباً منذ عام 2020، بسبب التوسع في مراكز البيانات. بالمثل، كانت انبعاثات الغازات الدفيئة لشركة «غوغل» في عام 2023 أعلى بـ 50% تقريباً مما كانت عليه في عام 2019، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى الطلب على الطاقة المرتبط بمراكز البيانات.
ويعتقد محللو «غولدمان ساكس للأبحاث» أن الارتفاع المتوقع في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من مراكز البيانات سيمثل «تكلفة اجتماعية» تتراوح بين 125 و140 مليار دولار. لكنهم يتوقعون أيضاً استثمارات كبيرة من قبل شركات التكنولوجيا لضمان الحصول على الطاقة من مصادر متجددة وزيادة قدرات توليد الطاقة النووية.
ويستكشف مشغلو مراكز البيانات بالفعل خيارات بديلة، مثل الطاقة النووية والهيدروجين، كما أنهم يستثمرون في التقنيات الناشئة، مثل: تقنيات التقاط الكربون، للحد من الأثر البيئي.
يدور تساؤل حول مدى إمكانية أن تفوق الفوائد الاقتصادية والاجتماعية للذكاء الاصطناعي التكلفة البيئية لاستخدامه، في وقت تتوقع التقارير أن يتمكن الذكاء الاصطناعي من المساعدة في تخفيف ما بين 5% و10% من انبعاثات الغازات الدفيئة العالمية بحلول عام 2030.
يمكن أن يساعد التقدم التكنولوجي في تقليل الطلب على الطاقة من أنشطة الذكاء الاصطناعي، عبر تحسين كفاءة الأجهزة وقوة المعالجة، ويقوم الباحثون حالياً بتصميم أجهزة ورقائق تقدم أداءً محسناً بشكل كبير، فضلاً عن تقنيات التبريد الجديدة. فشركة «إنفيديا» (Nvidia) مثلاً تقول إن «شريحتها الفائقة» الجديدة يمكنها تعزيز أداء خدمات الذكاء الاصطناعي التوليدي بمقدار 30 مرة باستهلاك طاقة أقل بمقدار 25 مرة.
إلى جانب ذلك، يتم العمل على تقليل الاستخدام الإجمالي للبيانات، بما في ذلك معالجة مشكلة البيانات المظلمة، وهي تلك التي يتم إنشاؤها وتخزينها دون استخدامها مجدداً.
ووسط التقديرات بأن الذكاء الاصطناعي التوليدي يمكن أن يساعد في خلق ما بين 2.6 تريليون دولار و4.4 تريليون دولار من القيمة الاقتصادية في جميع جوانب الاقتصاد العالمي، بحسب شركة «ماكينزي»، سيكون إيجاد توازن أفضل بين الأداء والتكاليف والبصمة الكربونية للذكاء الاصطناعي أمراً بالغ الأهمية في السنوات المقبلة.