دفع الطلب المتزايد على الكهرباء في الولايات المتحدة والاستثمارات الكبيرة التي تهدف إلى تعزيز الطاقة الخضراء، إلى إعادة تشغيل محطة باليسيدز النووية المتوقفة عن العمل في ولاية ميشيغان، وذلك في خطوة غير مسبوقة على مستوى العالم.
ومن المقرر إعادة تشغيل المحطة، التي بدأت عملياتها لأول مرة في عام 1971، وأُغلقت في عام 2022، في شهر أكتوبر 2025، لتصبح أول منشأة نووية في العالم تعود إلى العمل بعد إيقافها، ما يمثل ذلك علامة فارقة في تاريخ الطاقة النووية، بحسب تقرير لصحيفة "وول ستريت جورنال".
يأتي قرار إعادة تشغيل محطة باليسيدز، التي يبلغ عمرها 53 عاماً، بتكلفة تقدر بحوالي 2 مليار دولار، حيث تعهد المشرعون في الولاية بتخصيص 300 مليون دولار لخطة إعادة تشغيل المحطة، وحصلت الشركة المسؤولة عن التطوير على ما يصل إلى 1.52 مليار دولار في شكل قروض فيدرالية.
وتندرج إعادة تشغيل المحطة ضمن استراتيجية أوسع لتلبية الطلب المتزايد بسرعة على الكهرباء، والذي يُعزى بشكل كبير إلى الاحتياجات المتزايدة للطاقة من مراكز البيانات وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. وفقاً لتقرير صادر عن "غولدمان ساكس" في أبريل 2024، من المتوقع أن تمثل مراكز البيانات 8% من الطلب على الكهرباء في الولايات المتحدة بحلول عام 2030، مقارنة بحوالي 3% في عام 2022.
تعود الطاقة النووية كبديل عملي وأخضر للوقود الأحفوري، الذي أصبح أكثر تكلفة بسبب اللوائح الصارمة المتعلقة بالانبعاثات الصادرة عن الدولة والحكومة الفيدرالية. توفر الطاقة النووية، على عكس الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، توليداً مستمراً للكهرباء، ما يجعلها خياراً جذاباً للمرافق التي تسعى لتحقيق أهداف الطاقة النظيفة.
وفي ولاية ميشيغان بالتحديد، أقر المشرعون قانوناً في عام 2023 يلزم الولاية بتوليد كل طاقتها الكهربائية من مصادر خالية من الكربون، مثل الرياح والطاقة الشمسية والطاقة النووية، بحلول عام 2040، مما كان له دور كبير في اتخاذ قرار إعادة تشغيل باليسيدز، بحسب التقرير.
وتشير بعض الآراء إلى أن إعادة تشغيل المحطات المتوقفة عن العمل تعد وسيلة أسرع وأقل تكلفة لزيادة سعة الطاقة. بينما قد يستغرق بناء محطة جديدة أكثر من عقد من الزمان، من المقرر أن يُعَاد تشغيل محطة باليسيدز بعد حوالي عام ونصف من بدء عملية إعادة التشغيل. ومع بقاء عملية توليد الكهرباء من الطاقة النووية دون تغيير جوهري، يعتقد مالكو باليسيدز أن المحطة يمكن أن تعمل لمدة 25 عاماً أخرى على الأقل.
تم إغلاق محطة باليسيدز في الأصل من قبل مالكها السابق، محطة "إنترجي" لإنتاج وتوزيع الطاقة الكهربائية، في عام 2022 بسبب تكاليف التشغيل العالية، إذ تتطلب محطات الطاقة النووية بشكل عام عدداً أكبر من العمالة والأمان والامتثال التنظيمي مقارنة بأنواع أخرى من محطات الطاقة، مما يجعلها أقل قدرة على المنافسة الاقتصادية في سوق غمرها الغاز الطبيعي الرخيص.
كما أدى ازدهار تقنية "التكسير الهيدروليكي" لاستخراج النفط والغاز في الولايات المتحدة إلى خفض أسعار الغاز الطبيعي بشكل كبير، مما قلل من الجدوى الاقتصادية للحفاظ على المحطات النووية القديمة، مثل باليسيدز، قيد التشغيل.
ومع ذلك، تغيرت المعادلة الاقتصادية في السنوات الأخيرة، بحسب التقرير، فقد قدم قانون خفض التضخم الصادر عن إدارة بايدن في عام 2022، والذي يتضمن بنوداً تتعلق بإنفاق البنية التحتية للطاقة الخضراء، حوافز مالية للحفاظ على تشغيل المحطات النووية الحالية. وقد جعلت هذه الحوافز، جنباً إلى جنب مع زيادة الضغط على المرافق لتقليل الانبعاثات وتحقيق أهداف جديدة متعلقة بالمناخ، الطاقة النووية أكثر جاذبية.
شركة "هولتيك إنترناشونال"، وهي شركة متخصصة في تشغيل المفاعلات النووية مقرها فلوريدا، بشراء محطة باليسيدز في عام 2018 بنية إيقاف تشغيلها، وذلك قبل أن تصبح الحوافز الحكومية والفيدرالية متاحة، مقابل رسوم رمزية بهدف الاستفادة من صندوق ائتماني فيدرالي بقيمة 592 مليون دولار مخصص لإيقاف تشغيل المحطة. ومع ذلك، وبعد أسبوع واحد فقط من إغلاق المحطة في عام 2022، فاجأت "هولتيك" الدهشة في قطاع الطاقة النووية الجميع بإعلان خطط لإعادة تشغيل المنشأة.
ويُقال إن قرار الشركة فيما يتعلق بمحطة باليسيدز تأثر بتشجيع حاكمة ميشيغان غريتشن ويتمر، التي حثت "هولتيك" على إعادة النظر في إعادة فتح المحطة للمساعدة على تحقيق أهداف الطاقة النظيفة للولاية، من خلال إزالة ثلاثة ملايين طن من ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي سنوياً، وهو ما يعادل تقريباً انبعاثات 650 ألف سيارة.
وتتمثل خبرة "هولتيك" الأساسية في إيقاف تشغيل المفاعلات النووية، مما يجعل إعادة تشغيل باليسيدز أول مشروع لها في مجال تشغيل محطات الطاقة النووية. وللتخفيف من المخاطر، تخطط "هولتيك" للتعاقد مع شركة ذات خبرة أكبر في تشغيل المنشآت النووية، مع احتفاظها بملكية باليسيدز.
أوضح التقرير أن إعادة تشغيل محطة نووية أُوقِفَت يشكل تحديات كبيرة، خاصة في ضمان أن البنية التحتية القديمة تفي بمعايير السلامة الحديثة. نتيجة لذلك؛ تخضع أنظمة باليسيدز لفحوصات دقيقة وتحديثات لمعالجة التآكل والتحلل والمشكلات الأخرى التي قد تكون ظهرت خلال فترة عدم الاستخدام. ويشمل ذلك استبدال مكونات حيوية مثل الكرات الحاملة في المضخات والمحركات، وفحص وتنظيف أكثر من 8,200 أنبوب في مولدات البخار الخاصة بالمحطة، وضمان سلامة الأنابيب التي تدور المياه الباردة من بحيرة ميشيغان.
كما قامت "هولتيك" بحقن مواد كيميائية في أنظمة المحطة لإزالة الحطام المتراكم على مدى عقود، وهي خطوة حاسمة في تحضير المفاعل لإعادة التشغيل بأمان. بالإضافة إلى ذلك، يتم تركيب نظام إخماد حرائق جديد وموسع، إلى جانب تحديثات في أنظمة الكمبيوتر لتعزيز الأمن السيبراني والكفاءة التشغيلية.
ومن المهام الرئيسية، التي ستتم قريباً، نقل ما مجموعه 204 من مجمعات قضبان الوقود المستهلكة، المخزنة حالياً في حوض الوقود المستهلك بالمحطة، إلى حاويات جديدة من الخرسانة والصلب. وتتطلب هذه العملية الحساسة نقل المواد المشعة على طول مسار هندسي خاص إلى موقع تخزين آمن على أرض المحطة التي تبلغ مساحتها 432 دونماً.
لجنة المراقبة النووية
ولحساسية الموضوع، تتابع لجنة المراقبة النووية (NRC) عن كثب عملية إعادة تشغيل باليسيدز، حيث تفرض معايير صارمة للسلامة والأمن التي على المنشأة أن تلتزم بها قبل استئناف العمليات. ويشمل ذلك ضمان أن تكون المحطة محمية من الانهيارات المحتملة للمفاعلات، والأحداث الجوية الشديدة، والهجمات السيبرانية أو الهجمات بالطائرات المسيرة.
كما تعمل "هولتيك" حالياً على استيفاء متطلبات الترخيص الخاصة بالهيئة، ومن المتوقع صدور قرار بشأن إعادة تشغيل المحطة بحلول مايو 2025. تتضمن خطط الشركة أيضاً إمكانية بناء مفاعلين صغيرين بقدرة 300 ميغاواط في موقع باليسيدز، واللذين سيستخدمان تكنولوجيا جديدة مصممة لإنتاج نفايات مشعة أقل. ومع ذلك، ما تزال هذه الخطط في مراحلها الأولى، إذ لم تقدم "هولتيك" بعد طلب الحصول على التراخيص اللازمة.
كان لإغلاق باليسيدز في عام 2022 تأثير كبير على الاقتصاد المحلي، حيث أدى إلى انخفاض في إيرادات الضرائب بقيمة 1.6 مليون دولار لبلدية كوڤرت، الأقرب للمحطة. ومع ذلك، من المتوقع أن يؤدي افتتاح المحطة إلى تنشيط المجتمع، من خلال إعادة الوظائف وتحفيز الأعمال المحلية. وتخطط "هولتيك" لزيادة عدد العاملين في المحطة من 460 موظفاً حالياً إلى ما لا يقل عن 600 عامل بدوام كامل بمجرد التشغيل.
وأعرب ديوي كوك، رئيس البلدية، عن تفاؤله الحذر بشأن إعادة تشغيل المحطة، مشيراً إلى أن تحسن الأوضاع المالية قد مكّن البلدية بالفعل من المضي قدماً في مشاريع بلدية طويلة الأجل. وأكد كوك على أهمية التواصل المفتوح بين المجتمع و"هولتيك" لضمان معالجة مخاوف السلامة.
تتم متابعة عملية إعادة تشغيل باليسيدز عن كثب من قبل الصناعة النووية العالمية، حيث يمكن أن تشكل سابقة لإحياء محطات نووية أخرى تم إيقاف تشغيلها. حالياً، هناك 22 مفاعلاً نووياً قيد إيقاف التشغيل في الولايات المتحدة، وفقاً للجنة المراقبة النووية. وقد تكون بعض هذه المحطات مرشحة لإعادة التشغيل إذا نجحت عملية باليسيدز، مثل ”مفاعل 1" في محطة "ثري مايل آيلاند" الذي لم يتعرض للتلف في أثناء حادث المفاعل الشهير في عام 1979.
ومع ذلك، يجادل النقاد بأن إعادة تشغيل المحطات النووية القديمة تشكل مخاطر كبيرة على السلامة. وأشار المستشار في الطاقة النووية مايكل شنايدر إلى أن أي محطة جديدة تحتاج إلى تضمين ميزات سلامة حديثة لمنع الانهيارات، وتعزيز الحماية ضد التهديدات المتعلقة بتغير المناخ.
وعلى الرغم من هذه المخاوف، أكد تقرير الصحيفة أن مشروع باليسيدز يمثل حلاً محتملاً لتلبية الطلب المتزايد على الكهرباء والحاجة إلى مصادر طاقة خالية من الكربون. ومع مواجهة العالم لتحديات تغير المناخ والانتقال إلى الطاقة المتجددة، يتم الاعتراف مرة أخرى بالطاقة النووية كعنصر أساسي في مزيج الطاقة.