في خطوة استثمارية غير مسبوقة، أطلقت الصين برنامجاً تجريبياً يسمح لكبرى شركات التأمين بشراء الذهب لأول مرة، ما يمهد الطريق لضخ مليارات الدولارات في سوق المعدن النفيس. هذه الخطوة، تأتي بالتزامن مع بحث الاقتصاد الصيني عن بدائل أكثر استقراراً في ظل تباطؤ النمو وتراجع قطاع العقارات، ما قد يدفع بأسعار الذهب إلى مستويات قياسية، وسط توقعات بزيادة الطلب العالمي على هذا الأصل الاستثماري الآمن وتغيرات جذرية في مشهد الاستثمار العالمي.
وفقاً لتقرير صادر عن «مينشنغ سكيوريتيز» (Minsheng Securities)، ستتمكن عشرة من كبرى شركات التأمين الصينية، مثل (PICC Property & Casualty وChina Life Insurance)، من استثمار 1% من أصولها في الذهب.
ويعني ذلك ضخ استثمارات محتملة تصل إلى 200 مليار يوان (27.4 مليار دولار) في السوق، ما قد يعزز الطلب على الذهب بشكل غير مسبوق. هذا القرار، الذي يُعد تحولاً جوهرياً في السياسة الاستثمارية الصينية، من شأنه أن يمنح شركات التأمين بدائل أكثر استقراراً في ظل التقلبات الاقتصادية.
يأتي هذا التغيير في السياسة الاستثمارية مع استمرار تباطؤ نمو الاقتصاد الصيني وتراجع قطاع العقارات الذي كان لعقود طويلة أحد أبرز محركات الاستثمار، ما دفع بكين إلى البحث عن أصول بديلة وفقاً لمحلل الأسواق المالية حسام الحسيني، الذي قال إنه في ظل هذه المعطيات، بدأت الحكومة في توجهات جديدة بالبحث عن أدوات استثمارية بديلة، لتعزيز دور الذهب كأداة تنويع في الاحتياطيات الاستراتيجية، ما دفعها إلى تحرير سياسات الاستثمار في الذهب، باعتباره ملاذاً آمناً في أوقات الأزمات الاقتصادية والجيوسياسية.
ومنذ نهاية 2023، ارتفع سعر الذهب بنحو 40%، مدفوعاً بالمخاطر الاقتصادية المتزايدة، والتوترات الجيوسياسية العالمية، بما في ذلك سياسات ترامب التجارية، وكذلك التذبذبات الكبيرة التي من الممكن أن تشهدها الأسعار.
ومع ذلك، بحسب الحسيني، فإن دخول شركات التأمين الصينية إلى السوق قد يكون محفوفاً بالتحديات، أبرزها التكلفة العالية للاستثمار في المعدن النفيس مقارنة بالأصول الأخرى، بالإضافة إلى عدم وجود عائد دوري للذهب (مثل الفوائد أو الأرباح)، ما قد يُقلل جاذبيته كمُكوّن استثماري رئيس لشركات التأمين.
يشير محللون في «غوتاي جونان سكيوريتيز» (Guotai Junan Securities) إلى أن شركات التأمين الصينية تعاني محدودية خيارات الاستثمار في الأصول طويلة الأجل ذات العائد المستقر.
كما أن ارتفاع مبيعات منتجات الادخار في الصين أدى إلى زيادة التزامات هذه الشركات تجاه عملائها، ما دفعها إلى البحث عن أصول بديلة أكثر استقراراً، وفي ظل القيود المفروضة على الاستثمارات التقليدية مثل السندات والأسهم، بات الذهب خياراً استثمارياً جذاباً يمكن أن يسهم في تعزيز الاستقرار المالي لشركات التأمين.
يمثل السماح لشركات التأمين بالاستثمار في الذهب تحولاً تاريخياً في السياسة المالية للصين، فقد اعتادت بكين فرض قيود صارمة على استثمارات صناديق التأمين، حيث كانت تمنعها من الاستثمار في الأصول التي لا توفر عائداً نقدياً ثابتاً.
لكن مع تزايد التقلبات الاقتصادية، والتحديات التي تواجه الأسواق المالية، يبدو أن الذهب أصبح الخيار الأكثر أماناً وجاذبية لهذه المؤسسات الاستثمارية الضخمة.
ووفقاً لتحليل الحسيني، فإن نجاح المرحلة التجريبية قد يُؤدي إلى زيادة النسبة المسموح بها أو شمول مزيد من الشركات، خاصة مع اتجاه الذهب لمستويات 3,000 دولار/ أونصة. كما أنه يعزز من هيمنته عالميّاً حيث تمثل الأخيرة (تمثل 25% من الطلب العالمي)، ما قد يُعزز تأثيرها في المعدن النفيس.
مع هذا التدفق المحتمل لرؤوس الأموال، يبرز التساؤل الأهم: هل يمكن أن يصل الذهب إلى مستويات غير مسبوقة؟ أم أن الأسعار المرتفعة قد تحدّ من الإقبال عليه؟
المحللون يرون أن تأثير هذا القرار سيعتمد على مدى سرعة تنفيذ الاستثمارات الجديدة ومدى استجابة الأسواق العالمية لهذه الموجة من الطلب. وعلى الرغم من أن الذهب يُعد ملاذاً آمناً في الأوقات العصيبة، فإن ارتفاع الأسعار قد يدفع بعض المستثمرين إلى البحث عن بدائل أخرى، ما يجعل الفترة القادمة حاسمة في تحديد اتجاه السوق.
وينظر الكثير من خبراء أسواق السلع إلى أن القرار يعكس محاولة الصين لإدارة السيولة الفائضة، وأن تأثيره الفعلي سيعتمد على قدرة الشركات على استغلال السقف الكامل المُخصص في ظل تقلبات الأسعار الحادة وتأثيرها في حركة الأسعار العالمية.
وفي الوقت الذي يتزايد فيه الطلب على المعدن النفيس، فإن دخول هذه المؤسسات المالية الكبرى إلى السوق قد يعزز مكانة الذهب كأصل استثماري رئيس، ويدفع بأسعاره نحو مستويات تاريخية جديدة، ما قد يعيد تشكيل المشهد الاقتصادي والاستثماري العالمي خلال السنوات المقبلة.