من قلب الكابيتول، وليس من خلف الشاشات، صدح الرئيس الأميركي دونالد ترامب في أول خطاب له بعد توليه منصبه، متهماً مرة أخرى الصين بالسيطرة على قناة بنما، ومهدداً بالعمل على استعادتها و«لو بالقوة»، خاصة في ظل فرضها رسوماً اعتبرها تمييزية وباهظة على السفن الأميركية.
قبل ذلك بعدة أسابيع، قال ترامب عبر شبكته الاجتماعية «تروث سوشيال» (Truth Social)، إن «الجنود الصينيين يديرون قناة بنما»، وهو ادعاء رفضه المسؤولون البنميون والصينيون، حتى إن الرئيس البنمي خوسيه راؤول مولينو وصفه بـ«الهراء»، مؤكداً عدم وجود أي تدخل صيني في القناة.
ادعاءات الرئيس الأميركي لا أدلة تثبت صحتها، إلا أن الحضور الاقتصادي الصيني في القناة - الذي تعزز منذ عام 2017 عبر استثمارات بمليارات الدولارات - لا تخطئه الأعين، في منطقة تعتبرها واشنطن حديقتها الخلفية، ومشروعاً لطالما صُور على أنه إنجاز هندسي من صنع أميركي.
بعد محاولات عديدة لإقناع البنميين بجدواه، حصلت الولايات المتحدة على حقوق مشروع قناة بنما الذي أتمته عام 1914.
وقد ظلت القناة تحت سيطرتها حتى عام 1977، حين وقع الرئيس الأميركي آنذاك جيمي كارتر معاهدة لتسليمها تدريجياً إلى بنما. ومنذ عام 1999، أصبحت «هيئة قناة بنما» تتمتع بالسيطرة الحصرية على عملياتها.
القناة هي شريان حيوي للبضائع الأميركية، حيث تمثل حوالي 40% من حركة الحاويات الأميركية سنوياً، رغم أن الجفاف الذي ضرب القناة في السنوات الأخيرة، أجبر بعض خطوط الشحن على البحث عن بديل بري.
في يونيو 2017، قررت الحكومة البنمية إقامة علاقات دبلوماسية مع بكين، معلنة قطيعة مع تايبيه شكلت انتصاراً كبيراً للدبلوماسية الصينية، بعد أن كانت أميركا الوسطى حليفاً تقليدياً لتايوان.
أفسحت العلاقات الصينية البنمية الجديدة المجال لتوقيع العديد من الاتفاقية في قطاعات مختلفة، ما فتح الباب أمام تدفق الاستثمارات الصينية على قناة بنما التي انتعشت بفعل عملية التوسعة.
وبعد أشهر، أصبحت بنما أول دولة في أميركا اللاتينية تنضم إلى مبادرة «الحزام والطريق»، مشروع البنية التحتية العالمي الضخم الذي تقوده بكين.
انخرطت الشركات الصينية بشكل كبير في العقود المتعلقة بالبنية التحتية في القناة وما حولها، شملت قطاعات الخدمات اللوجستية والكهرباء والبناء، والتي تتماشى ورؤية مبادرة «الحزام والطريق».
لعل المحرك الاقتصادي الأكثر أهمية في بنما هو القناة، التي تربط بين المحيطين الأطلسي والهادئ، وتشكل إحدى أهم طرق التجارة العالمية.
على مر السنين، أصبحت الصين ثاني أكبر عميل لقناة بنما بعد الولايات المتحدة، إذ تشير أرقام صندوق النقد الدولي الخاصة بالسنة المالية 2021، إلى أن الولايات المتحدة كانت مصدر أو وجهة نحو 72% من السفن جميعها التي عبرت القناة. وجاءت الصين في المرتبة الثانية بـ 22% من حركة المرور عبر القناة، تلتها اليابان بنحو 15%.
توفر قناة بنما تجارة أكثر كفاءة بين آسيا والموانئ الشرقية للأميركيتين، مقارنة ببدائل مثل النقل البري أو الملاحة عبر كيب هورن وما تضيفه من مسافة وتكلفة وتأثير بيئي، في حين أن الطرق القطبية الشمالية موسمية ومقيدة جيوسياسياً.
جذب هذا الموقع الجغرافي المتميز والنمو الاقتصادي السريع، أنظار الصين، فقناة بنما توفر وصولاً متميزاً إلى المحيطين الأطلسي والهادئ، وتمر عبرها بضائع بقيمة 270 مليار دولار تقريباً سنوياً، بحسب بيانات بلومبرغ، كما تشكل نحو 5% من التجارة البحرية العالمية. وإلى جانب المصالح الاقتصادية، ينظر إلى بنما كنقطة جيوإستراتيجية مهمة.
في الوقت الحالي، تسيطر شركة «هاتشيسون» (Hutchison) الصينية التي يقع مقرها في هونغ كونغ، على اثنين من الموانئ الخمسة الرئيسة في بنما؛ كل واحد منهما على جانب من الممر المائي في بالبوا (Balboa) وكريستوبال (Cristóbal). كما تنهي شركات صينية العمل في محطة للرحلات البحرية على ساحل المحيط الهادئ، وقد استأنف اتحاد من الشركات المملوكة للصين العام الماضي بناء جسر رابع عبر القناة بتكلفة 1.3 مليار دولار، بعد عراقيل أخرت تنفيذ المشروع.
يأتي ذلك بعد سيطرة «مجموعة لاندبريدج» (Landbridge Group) الصينية في عام 2016 على جزيرة مارغريتا، أكبر ميناء في بنما على الجانب الأطلسي؛ والقريبة من كولون، أكبر منطقة للتجارة الحرة في نصف الكرة الغربي، مقابل 900 مليون دولار. تبع الصفقة بناء شركة «تشاينا كوميونيكيشنز كونستركشن» (CCCC) لميناء آخر عميق للسفن العملاقة هو ميناء حاويات بنما كولون (PCCP).
فضلاً عن ذلك، لشركة «هواوي» حضور في بنما والمحيط الهادئ، إلى جانب البنوك الصينية المرخص لها هناك.
قال ريان بيرغ، مدير برنامج الأميركيتين لدى مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية (CSIS)، إن تشغيل الصين لموانئ في بنما يوفر لشركة «هاتشيسون» «ثروة من المعلومات الإستراتيجية المحتملة».
وأخبر شبكة «بي بي سي» أن «هذا النوع من المعلومات المتعلقة بالشحنات سيكون مفيداً للغاية في حال نشوب حرب في سلسلة التوريد»، في ظل وجود توتر جيوسياسي متزايد بين الولايات المتحدة والصين.
يثير هذا أيضاً مخاوف بشأن البنية التحتية ذات الاستخدام المزدوج، خاصة في ضوء العلاقات القوية بين الصين ودول أميركا اللاتينية، وفق تقرير لـ «المجلس الأطلسي» (Atlantic Council).
ورغم أن «هاتشيسون» ليست مملوكة للدولة الصينية، قال بيرغ إن هناك مخاوف في واشنطن بشأن «درجة السيطرة» التي قد تمارسها بكين على الشركة.
لكن أندرو توماس، الأستاذ بجامعة أكرون الأميركية (ِAkron University)، الذي ألف كتاباً عن قناة بنما، رأى أن عطاءات تشغيل هذه الموانئ لم تشهد سوى منافسة ضئيلة.
وصرح لـ«بي بي سي» قائلاً: «في ذلك الوقت لم تكن الولايات المتحدة مهتمة بتلك الموانئ».
قد تكون هذه «الحزمة من الأنشطة الصينية»، كما وصفها توماس، هي الدافع وراء ادعاء ترامب بأن القناة «مملوكة» للصين، مؤكداً أن استغلال هذه الموانئ لا يعادل الملكية.
ومن المرجح أن تمثل تصريحات الرئيس الأميركي إستراتيجية مدروسة على مستويين: خارجياً، هو يسعى إلى معالجة الزيادة في رسوم عبور القناة، في حين يتصدى لنفوذ الصين الآخذ في التوسع. وعلى الصعيد المحلي، فهو يستخدم خطاباً يروق لقاعدته السياسية، وفق ما خلص إليه تقرير «المجلس الأطلسي».
نفى المسؤولون في بنما مزاعم ترامب بأن الصين تدير القناة، وأن الولايات المتحدة تُفرَض عليها رسوم باهظة. وقال ريكاورتي فاسكيز، مدير القناة في مقابلة مع وكالة «أسوشيتد برس»: «لا يوجد تمييز في الرسوم».
إلا أن رسوم العبور عبر قناة بنما ارتفعت بالفعل وبشكل عام، في استجابة لتداعيات الجفاف خلال عام 2023 وأوائل عام 2024، والذي حد من عدد السفن التي يمكنها عبور القناة. وقد رفعت السلطات الرسوم لمواجهة خسارة الإيرادات نتيجة قيود العبور.
مدير القناة شدد على أن الصين لا تدير القناة، وأن الشركات الصينية العاملة في الموانئ على طرفيها كانت جزءاً من اتحاد هونغ كونغ الذي فاز بعملية تقديم العطاءات في عام 1997.
وأضاف فاسكيز أن الشركات الأميركية والتايوانية تدير موانئ أخرى على طول القناة أيضاً.
لقد أثار توسع مبادرة «الحزام والطريق» الصينية في الموانئ البنمية، قلق الولايات المتحدة بشأن طموحات يُنظر إليها على أنها «تعرض حياد القناة للخطر».
كانت معاهدة الحياد بين بنما والولايات المتحدة، نصت على الحياد الدائم للقناة مع إمكانية وصول عادلة للجميع ورسوم غير تمييزية. لكن واشنطن احتفظت بالحق في ممارسة القوة العسكرية «للدفاع عن قناة بنما ضد أي تهديد لحيادها».
ولفت تقرير يعود إلى عام 2021 نشره مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية (CSIS)، إلى أن التدخلات الصينية الحالية والمستقبلية يجب أن تُحسب بدقة، مع وضع تلك الاستجابة المحتملة في الاعتبار.