تواجه سوريا تحدياً هائلاً يتمثّل في إعادة أكثر من 6.8 مليون لاجئ خارج البلاد و7 ملايين نازح داخلياً، في وقت انكمش فيه الاقتصاد السوري بنسبة تجاوزت 80% منذ عام 2011، وارتفع معدل الفقر إلى أكثر من 90% وفقاً لتقرير صادر عن البنك الدولي.
هذه الأرقام تظهر حجم الأزمة بوضوح، ما يعني أن معظم العائدين سيجدون أنفسهم في وضع اقتصادي كارثي. فالمدن الكبرى مثل حلب ودمشق لا تزال تعاني دماراً واسعاً، ويفتقر كثير من العائدين إلى منازلهم الأصلية التي إما دُمرت بالكامل، أو استولت عليها أطراف أخرى خلال الحرب، بحسب تقرير هيومن رايتس ووتش (HRW)، ما يثير مخاوف من نزاعات جديدة حول السكن والملكية.
خلال عام 2024 وحده، عاد ما يقرب من 500 ألف سوري، بحسب المركز السوري لبحوث السياسات، مدفوعين بالوضع المتردي في دول اللجوء، حيث أجبرت الأوضاع الاقتصادية والأمنية المتدهورة في لبنان وتركيا مئات الآلاف على العودة، حتى دون توفر ضمانات للاستقرار في بلدهم الأصلي. ومع ذلك، فإن العودة إلى سوريا لا تعني نهاية المعاناة، بل قد تكون بداية لمرحلة جديدة من التحديات في ظل اقتصاد منهار وبنية تحتية شبه مدمرة.
رغم أن العودة الطوعية للاجئين كانت موضوعاً للنقاش منذ سنوات، فإن التطورات الأخيرة جعلت منها أمراً مفروضاً على مئات الآلاف منهم. في لبنان، أدى الصراع مع إسرائيل وتفاقم الأزمة الاقتصادية إلى موجة نزوح عكسية، حيث عاد أكثر من 350 ألف سوري إلى بلادهم خلال الأشهر الأخيرة من 2024، وفقاً لتقرير اللجنة الدولية للصليب الأحمر. في تركيا، تزايدت عمليات الترحيل القسري منذ عام 2022، مدفوعة بالضغوط السياسية والاقتصادية، ما أجبر عشرات الآلاف على العودة إلى مناطق غير مهيأة لاستقبالهم.
من ناحية أخرى، انخفضت المساعدات الدولية المقدمة للاجئين بنسبة 35% خلال عام 2024، وفقاً لبرنامج الغذاء العالمي (WFP)، حيث أدى الوضع المالي العالمي بعد جائحة كورونا إلى تراجع الدعم المقدم لدول اللجوء، ما جعل البقاء أصعب من العودة إلى بلد غير قادر على استيعابهم، ومع أن بعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة لا تزال تقدم مساعدات محدودة، فإن هذه المساعدات لم تعد كافية لضمان حماية اللاجئين في الخارج أو تأمين عودتهم بشكل آمن ومنظم.
أحد أكبر التحديات التي تواجه الحكومة السورية الانتقالية هو توفير فرص العمل والخدمات الأساسية للعائدين. البطالة تجاوزت 60%، بحسب تقديرات اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا)، والتضخم المتسارع يجعل القدرة الشرائية للمواطنين في أدنى مستوياتها منذ 30 عاماً، في حين أن النظام المصرفي شبه مشلول بسبب العقوبات والفساد. يضاف إلى ذلك أن البنية التحتية في معظم أنحاء البلاد لا تزال غير مؤهلة لاستقبال أعداد كبيرة من السكان، مع انقطاع الكهرباء ونقص المياه الصالحة للشرب والخدمات الصحية والتعليمية.
إحدى المشكلات الكبرى التي تواجه العائدين هي أزمة الإسكان، حيث يجد كثيرون منازلهم مدمرة أو مستولى عليها من قبل أطراف أخرى. تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا أكد أن القوانين الحالية، قد تعقّد عمليات استعادة الملكيات، ما يهدد الاستقرار الاجتماعي. تحتاج الحكومة الحالية إلى سياسات واضحة لحماية حقوق العائدين، بما في ذلك آليات قانونية لتسوية النزاعات حول الأراضي والعقارات، إلى جانب برامج دعم مالي لتأمين سكن مؤقت لهم.
لتجنب كارثة إنسانية جديدة، تحتاج سوريا إلى خطة اقتصادية واضحة تستند إلى شراكة بين الحكومة الانتقالية والمجتمع الدولي. يمكن لدول الخليج، التي تمتلك فوائض مالية ضخمة، أن تلعب دوراً حاسماً في تمويل إعادة الإعمار، كما أن المؤسسات الدولية، مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي، يمكنها المساعدة في وضع سياسات اقتصادية تعزز الاستقرار وتوفر فرص العمل للعائدين.
إلى جانب ذلك، يجب على الحكومة الانتقالية العمل على إعادة بناء مؤسسات الدولة بطريقة تضمن تقديم الخدمات الأساسية بشكل فعّال، والاستفادة من منظمات المجتمع المدني التي أثبتت فعاليتها خلال سنوات الحرب في تقديم المساعدات والخدمات للسكان، ويمكن لدمج هذه المنظمات في جهود إعادة الإعمار أن يساعد في تخفيف الضغط عن الحكومة وتحقيق نتائج أسرع.
كذلك، فإن نجاح عملية إعادة اللاجئين يتطلب التزاماً دولياً بعدم فرض العودة القسرية قبل تهيئة الظروف المناسبة في الداخل السوري. يجب على الدول المضيفة التوقف عن الضغط على اللاجئين للعودة، والسماح لهم بممارسة «زيارات» إلى سوريا دون فقدان حقهم في اللجوء. كما يجب على المجتمع الدولي ربط المساعدات المالية للدول المضيفة بالتزامها بحماية حقوق اللاجئين، كما حدث مع حزمة المساعدات الأوروبية للبنان والأردن عام 2023.
سوريا اليوم أمام منعطف حاسم، فإما أن تتمكن من تنظيم عودة اللاجئين بشكل مدروس يساهم في إعادة بناء البلاد، أو تواجه موجة جديدة من الفوضى قد تدفع مئات الآلاف إلى الهجرة مجدداً، ودون خطة اقتصادية متكاملة، واستقرار سياسي، وضمانات قانونية، قد تتحول عودتهم إلى عامل إضافي في زعزعة الاستقرار بدلاً من أن تكون خطوة نحو التعافي.
الفرصة لا تزال متاحة، لكن أي تأخير في اتخاذ إجراءات جادة سيجعل التكلفة البشرية والاقتصادية أكبر بكثير في المستقبل.