بعد عقود من الغياب، أجرى العراق، بدعم أممي، التعداد السكاني الشامل وسط آمال كبيرة بأن يكون نقطة انطلاق نحو مستقبل أفضل من خلال توزيع عادل للثروات والخدمات بالبلد الذي يمر بمرحلة إعادة بناء بعد سنوات من الفوضى والإرهاب.
التعداد الذي يعد الأول منذ 37 عاماً شمل أكثر من 130 ألف موظف استهدفوا بيانات نحو 44.5 مليون نسمة في جميع أنحاء البلاد من خلال 77 سؤالاً بينها أسئلة عن السلع الغذائية ومستوى المعيشة، ضمن مساعي الحكومة لفهم التوزيع الديمغرافي بشكل أكثر دقة بعد سنوات من النزوح الداخلي وتغييرات شهدتها التركيبة السكانية.
ويرى خبراء تحدثوا لـ«إرم بزنس» أن التعداد في غاية الأهمية، ويمثل «نقطة تحول للاقتصاد» لبناء إستراتيجية لتنمية مستدامة وخريطة تنموية واضحة في البلاد، مرجعين ذلك إلى أنه سيكشف للحكومة إحصاءات دقيقة تعزز التوزيع العادل للثروات وفرص العمل الحكومية وتطوير الخدمات، وستكون بوصلة للمستثمرين تقودهم لخطط استثمارية ناجحة وإعطاء حصة عادلة من الموازنة للمحافظات الأكثر تضرراً.
عريان صالح، المدير التنفيذي للتعداد في وزارة التخطيط، العراقية، قدّر في تصريحات صحفية الأربعاء عدد سكان العراق بـ44.5 مليون نسمة، مشيراً إلى أن حصة إقليم كردستان من الميزانية الوطنية، المقدرة حالياً بنسبة 12%، تعتمد على تقدير عدد سكانه بـ6 ملايين.
ووفق معلومات غير رسمية عراقية، أُجري أول تعداد العام 1920 إبان الاحتلال البريطاني للعراق، وتلاه ثان في 1927 وثالث في 1934، ورابع عام 1947، وتم آنذاك إقرار إجرائه كل 10 سنوات، وتم بالفعل التعداد الخامس العام 1957، وتلاه سادس في العام 1965، وكان الأول في العهد الجمهوري ثم السابع العام 1977، والثامن الذي كان في عموم البلاد العام 1978، والتاسع الذي تم العام 1997 دون إقليم كردستان.
ووسط حظر تجوال امتد ليومين، من الساعة 7 صباحاً بالتوقيت المحلي، ولغاية منتصف الليل، أطلق العراق الأربعاء تعداداً سكانياً يعد العاشر بتاريخ البلاد يهدف وفق البيانات الرسمية لتوفير بيانات دقيقة وشاملة عن عدد السكان، وتوزيعهم الجغرافي، ومستويات المعيشة في عموم أنحاء البلاد من ضمنها إقليم كردستان.
ويشارك في التعداد، وفق بيان لهيئة الإحصاء في وزارة التخطيط، أكثر من 130 ألف موظف، إضافة إلى المشرفين، ومن أبرز المشاركين فيه الرئيس العراقي، جمال رشيد، ورئيس الوزراء محمد شياع السوداني، وقد نشرت وكالة الأنباء العراقية الرسمية الأربعاء صوراً لهما وهما يدليان بمعلوماتهما لموظفي التعداد، وسط دعوات واسعة للمشاركة كان أبرزها من زعيم التيار الوطني الشيعي مقتدى الصدر والمرجعيات الدينية والرموز السياسية.
وأرجعت وزارة التخطيط، في بيان الثلاثاء، أسباب إدراج بعض السلع في استمارة التعداد إلى تحديد المناطق التي تحتاج إلى المزيد من الخدمات، وتحديد طبقات المجتمع والوضع الاقتصادي وقياس مستوى الرفاهية والفقر في كل منطقة معينة. كما يكشف التعداد حقيقة ما يوصف بـ«الوظائف الوهمية» التي يشكون منها عراقيون منذ سنوات حيث يتقاضى آلاف الموظفين رواتب من وظائف متعددة دون أي عمل فعلي، بينما يستفيد المديرون من جزء من رواتبهم مقابل تمكينهم منها.
وربطت الحكومة بين التعداد ومصير اقتصاد التنمية بشكل لافت، وأكد رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، عبر مواقف رسمية يومي الثلاثاء والأربعاء، أهمية المشاركة، قائلاً إن «قاعدة البيانات القيمة ستكون بخدمة مؤسسات الدولة، وستسهم في دعم حق الشرائح الأكثر حاجة إلى الخدمة، وتوجيهها إلى الأكثر استحقاقاً، وتشخيص بؤر الأزمات الحياتية ورسم خريطة العراق التنموية، وضمان توزيع الموارد والخدمات بين المحافظات وفق قواعد أكثر عدالة».
تلك الآمال الاقتصادية المرجوة من التعداد، أكدتها وزارة التجارة العراقية، في بيان الثلاثاء، موضحة أنه «خطوة مهمة» في توجيه الاستثمارات في عموم مناطق العراق مع جذب الجهد الدولي إلى سوق العمل الوطني مع توافر قاعدة بيانات دقيقة، وإجراء يخدم البلد اقتصادياً واجتماعياً من خلال معالجته للفقر والبطالة ومعرفة الأسر المحتاجة وعدد العاملين والعاطلين عن العمل والنهوض بالواقع الاقتصادي عموماً.
وبحسب تقديرات الوزارة العراقية، فإن معرفة نتائج التعداد تمكن من رسم السياسات العامَّة ووضع الإستراتيجيات المرتبطة بالاستثمار والإسكان والتعليم والصحة والاستثمار الرأسمالي المرتبط بشبكات الطرق والاتصالات وتطوير الخدمات العامَّة والبرامج التنمويَّة، ويرافق ذلك التمكين توزيع الميزانيات بين المناطق الإداريَّة وفقاً للاحتياجات التنمويَّة».
من جانبه، أكد الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في العراق محمد الحسّان أهمية هذا المشروع في ضمان عدالة توزيع الثروات في البلاد، فضلاً عن أهميته التنموية في رسم السياسات المستقبلية في جميع المجالات، موضحاً أن الأمم المتحدة شريكة في عملية التعداد.
ونقلت وكالة الأنباء العراقية عن المستشار المالي لرئيس الوزراء، مظهر محمد صالح، أن التعداد السكاني يمثل «أداة إستراتيجية أساسية لتحقيق نمو اقتصادي مستدام في العراق»، مؤكداً أن البيانات الناتجة عن هذا التعداد ستسهم في تحسين الإدارة الحكومية، وتعزيز مستويات الحوكمة، فضلاً عن دعم الاستثمار وزيادة كفاءة استخدام الموارد لـ«تحقيق تنمية اقتصادية شاملة».
السفير السابق ورئيس المركز العراقي للدراسات الإستراتيجية، الدكتور غازي فيصل يرجع في حديث لـ«إرم بزنس»، تأخر إجراء ذلك التعداد بانسيابية وأمان ونتائج جيدة لعوامل بينها الحصار الاقتصادي العالمي الذي واجهه العراق قبل عقود والاحتلال السابق والظروف الأمنية والحروب والإرهاب ومواجهة «داعش» وظهور أحزاب ليس لديها نظرة اقتصادية وتنموية ببناء الدولة.
ويرى أن الدول عادة ما تجري كل 10 سنوات تعداداً لارتباطات بخطط اقتصادية وتنموية، مؤكداً أنه لا يمكن لأي دولة بناء إستراتيجية تنموية أمنية دون معرفة دقيقة لمؤشرات تتعلق بعناصر القوة والقدرات والثروات والموارد والاختلالات الاقتصادية.
وباعتقاد غازي فيصل، فإن التعداد يسهم في تخطيط علمي منظم لمؤسسات الدولة، ومن ثم يتجه العراق نحو بناء إستراتيجية تذهب لتنمية مستدامة تحتاج إلى انفتاح على استثمارات عالمية وإعادة بناء الصناعة والعودة إلى كونه بلداً زراعياً بالأساس، وليس كما نراه الآن يستورد 92% من احتياجاته الغذائية.
الخبير الاقتصادي العراقي ومدير المركز العالمي للدراسات التنموية بالمملكة المتحدة، صادق الركابي، يؤكد، في حديث لـ«إرم بزنس»، أن التعداد السكاني ونتائجه سيكونان «نقطة تحول نوعية» في تاريخ البلاد واقتصاد البلاد، خاصة وفي السابق لم تكن هناك أرقام حقيقية حول عدد سكان وتوزيعهم وواقعهم المعيشي والصحي والاجتماعي.
وباعتقاد الركابي، فإن «نتائج التعداد تستطيع أخذ الدولة لتخطيط سليم» ومعرفة احتياجات المواطنين وواقع المعيشة ونسب الفقر والبطالة أو توزيع السكان، ما يؤثر على حصص توزيع الموازنة في مختلف محافظات البلاد بشكل عادل.
وسوف يمتد الأثر الإيجابي للتعداد، وفق الخبير الاقتصادي العراقي، في القدرة على معرفة الواقع التعليمي وغيره من قطاعات الدولة، ما يعطي أساساً للتنمية المستدامة ينعكس على كافة المجالات، ويوضح حجم ونوع الاستثمارات المطلوبة، ويدعم التحول الرقمي بالبلاد.
ويتوقع الركابي أن «كل مفاصل الدولة العراقية ستتأثر إيجاباً» بعملية التعداد السكاني، وسيكون له أثر اقتصادي كبير إذا ما تم استخدام النتائج بشكل يؤدي إلى تطوير الاقتصاد ودعم المجتمع بشكل حقيقي.