أظهر الاقتصاد الروسي، الذي أبدى مرونة مذهلة خلال أكثر من عامين من الحرب والعقوبات، تصدعات كبيرة في الآونة الأخيرة، ولا سيما مع التراجع الحاد في قيمة الروبل.
ووفقاً لتقرير نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال»، هبط الروبل إلى أدنى مستوياته منذ 32 شهراً، بالتزامن مع ارتفاع ملحوظ في معدلات التضخم. وفي محاولة لطمأنة الشعب، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هذا الأسبوع: «لا يوجد بالتأكيد أي سبب للذعر».
جاء هذا الانخفاض الحاد في قيمة العملة بعد إعلان إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن توسيع العقوبات لتشمل «غازبروم بنك»، الذي يُعد آخر مؤسسة مالية كبرى لم تكن خاضعة للعقوبات في السابق.
ويعد البنك، الذي تديره الدولة، ركيزة أساسية لدفع رواتب الجنود ومعالجة المعاملات التجارية. كما طالت العقوبات أكثر من 50 مؤسسة مالية أخرى، ما زاد من الضغوط الاقتصادية على روسيا، وأثار تساؤلات حول قدرتها على تحمل الأعباء المتزايدة.
استُثني «غازبروم بنك» من العقوبات السابقة لتمكين الحلفاء الأوروبيين من سداد مدفوعاتهم مقابل الطاقة الروسية. لكن إدراجه مؤخراً ضمن العقوبات يعرض قدرة روسيا على الحصول على العملات الأجنبية الأساسية للخطر، وهو ما يشكل أهمية حيوية للواردات واستقرار الاقتصاد الروسي.
وتراجع الروبل إلى حوالي 108 مقابل الدولار الأميركي، وهو أدنى مستوى له منذ الأيام الأولى للغزو الروسي لأوكرانيا، وفقاً لبيانات (London Stock Exchange Group). ورداً على ذلك، تدخّل البنك المركزي الروسي، وأوقف شراء العملات الأجنبية لبقية العام في محاولة لمعالجة النقص الحاد في العملة الصعبة. ورغم أن هذا التدخل ساهم في استقرار مؤقت للروبل، إلا أنه كشف عن تحديات متزايدة تواجه الحفاظ على استقرار الاقتصاد.
وأرجع وزير الاقتصاد الروسي، مكسيم ريشيتنيكوف، تراجع العملة إلى الحاجة للتكيف مع العقوبات الجديدة، مشيراً إلى ضرورة تعديل آليات النظام المصرفي وتوجيه تدفقات العملات الأجنبية نحو السوق المحلية.
في المقابل، حذر محللون من أن العقوبات الجديدة قد تؤدي إلى تعقيد المسارات التجارية الروسية، التي تعاني بالفعل من قيود كبيرة. كما أن الشكوك حول الالتزامات المالية دفعت المتعاملين والبنوك الأجنبية إلى التريث، ما خلق ما وصفه أحد الخبراء بـ «التأثير المربك».
أصبح الإنفاق العسكري منذ غزو أوكرانيا في فبراير 2022 ركيزة أساسية لتكييف الاقتصاد الروسي. وقد بلغ الإنفاق الدفاعي مستويات قياسية هذا العام، ومن المتوقع أن يتجاوز 120 مليار دولار في العام المقبل، ما يمثل أكثر من 30% من الميزانية الوطنية.
ساهمت هذه النفقات الحكومية في دعم دخل الأسر من خلال رواتب الجنود وتقديم قروض عقارية مدعومة. ومع ذلك، فإن هذه السياسات التحفيزية تسببت في ارتفاع معدلات التضخم إلى أكثر من 9%، وهو ما يزيد عن ضعف الهدف الذي حدده البنك المركزي الروسي.
ورغم رفع أسعار الفائدة إلى 21% هذا العام، استمرت الضغوط التضخمية نتيجة نقص العمالة، حيث تم إرسال أعداد كبيرة من الرجال في سن العمل إلى الجبهة. وتشير البيانات إلى ارتفاع تكاليف السلع اليومية بنسبة 28 % مقارنة بالعام الماضي.
يتوقع خبراء الاقتصاد تشديداً إضافياً في السياسة النقدية للحفاظ على استقرار الروبل. وتوقعت تاتيانا أورلوفا، كبيرة الاقتصاديين في «أوكسفورد إيكونوميكس»، أن يرفع البنك المركزي أسعار الفائدة إلى 23%، مع إعادة فرض قيود على رأس المال لتحفيز الطلب على الروبل.
ومع ذلك، فإن هذه التدابير قد تثقل كاهل الاقتصاد بشكل كبير، ما ينذر بركود اقتصادي محتمل بحلول عام 2026. وتظهر البيانات بالفعل انكماشاً في القطاعات غير المدعومة عسكرياً، مثل الزراعة والنقل.
وفي هذا السياق، قالت أورلوفا: «الاقتصاد ربما يكون عند نقطة تحول، والسياسة النقدية الصارمة تدفعه نحو الركود».
كلما طال أمد الحرب، ازدادت حدة الضغوط الاقتصادية على روسيا. وتشهد القطاعات غير العسكرية، مثل الصحة والتعليم، تراجعاً ملحوظاً نتيجة توجيه الموارد لدعم المجهود الحربي.
وفي هذا السياق، قالت إلينا ريباكوفا، الزميلة في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، إن موسكو تواجه خيارات سياسية تزداد صعوبة؛ مما يهدد الاستقرار الاقتصادي على المدى البعيد.
وأضافت أنه رغم استبعاد حدوث أزمة اقتصادية وشيكة، ستزداد التحديات تعقيداً كلما استمرت الحرب.
أثار انخفاض قيمة الروبل مخاوف واسعة بين المواطنين، حيث يعتبر سعر الصرف مؤشراً مهماً على الوضع الاقتصادي. ويشكل الهبوط إلى ما دون 100 روبل مقابل الدولار الأميركي حاجزاً نفسياً كبيراً لدى الكثير من الروس.
وعبر أحد المستخدمين على تطبيق «تيليغرام» عن قلقه، قائلاً: «أرجوكم قولوا لي إن كل شيء سيكون على ما يرام، أشعر بالمرض»، ورد الحساب الرسمي للبنك المركزي: «كل شيء سيكون على ما يرام».
ووفق التقرير، فإن هذا المزيج من التضخم، وهبوط الروبل، وتكاليف الحرب المتزايدة، يعكس حالة من عدم اليقين التي يعيشها المواطنون يومياً، تماماً كما يعكس الضغوط المتنامية التي يواجهها الاقتصاد الوطني.