أزمة الكهرباء إرث تاريخي بعد توقف الاستثمار بالإنتاج والتوزيع 23 عاماً
معاشات التقاعد أولوية اجتماعية وأخلاقية لحكومة العراق ولا مساس بها
تحديات وتقلبات شهدها العراق على مدار العقود الماضية استنزفت بعضها خزائنه، وألقت بظلالها على معيشة المواطن مع تدهور قطاعات حيوية، وأخرى أثَّرت بعمق في جسد الاقتصاد، مخلفة أزمات لا تزال ماثلة تعيق مساعي النهوض، ما يدفع للتساؤل حول كيفية مواجهة هذه المعوقات، وما هي خطط الحكومة لتنويع الإيرادات بدلاً من الاعتماد على النفط.
للإجابة عن هذه الأسئلة، حاورت «إرم بزنس» مستشار رئيس الوزراء العراقي للسياسات المالية، مظهر محمد صالح، في مقابلة، تحدث خلالها عن رؤية الحكومة لحل أزمة الكهرباء التي أرهقت المواطنين، وسبل مواجهة الفساد الذي ينخر في مؤسسات الدولة، وتوقعاته لعجز الموازنة وأسباب تراجع العملة المحلية، وصحة احتمالية تعويم الدينار العراقي.
وتالياً نص الحوار:
نحن إزاء عراق جديد تتبلور ملامحه عبر السياسة الخارجية، لا سيما الاقتصادية التي تتسم بقدر عال من أوجه العقلانية في التعاطي مع المصالح الاقتصادية الدولية، والمنظمات والمؤسسات الدولية المتعددة الأطراف، والعودة إلى ترسيخ تلك العلاقات التي تعثرت بسبب سياسات النظام السياسي البائد ومشكلات ما بعد الاحتلال، وبعيداً عن الفساد الذي عطّل التنمية.
وبناء على ما تقدم، فإن الإستراتيجية النفطية للعراق، والتعاون الشفاف مع مصالح المنتجين والمستهلكين منحا العراق زخماً قوياً ليحتل مكانته في سوق الطاقة العالمي.
وعلى صعيد بناء المصالح الإقليمية والدولية الإستراتيجية المشتركة، فإن مشروع طريق التنمية (طرق برية وسكك حديدية بطول 1200 كيلومتر تمتد من العراق إلى تركيا وموانئها)، الذي أٌطلق العام الماضي، ويربط أوروبا بالخليج وجنوب العالم، سيعيد للعراق مكانته كفاعل، لا سيما على صعيد بناء المصالح الإقليمية والدولية الإستراتيجية المشتركة، وسيكون له دور جيوإستراتيجي في ربط مصالح العالم والعراق في إحدى أهم الممرات التي تربط الخليج والبحر بالبر العراقي.
هناك إستراتيجيات طويلة الأجل لدى العراق في المجالات المختلفة تقارب الـ20 إستراتيجية، سواء في التعليم أم الصناعة أم الإسكان أم القطاع الخاص أم الزراعة، وضعت بالتعاون مع المنظمات الدولية، ولا سيما برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
وقبل أشهر أطلق العراق خطة التنمية الوطنية للسنوات 2024- 2028 بعد إعداد طويل، وبالتعاون مع الوكالة الأميركية للتنمية والأمم المتحدة التي تؤمن معدل نمو سنوي في الناتج المحلي الإجمالي يقارب 5%.
وأرى أنه من المهم أن تعتمد خطة التنمية الوطنية بتشريع ملزم التنفيذ وعابر للتقلبات الانتخابية، ومستقل عليها وليس اعتمادها كمؤشرات كما كان يحصل خلال العقدين الأخيرين.
أزمة الكهرباء إرث تاريخي بعد توقف الاستثمار في الإنتاج والتوزيع طوال المدة التي خاضها النظام السابق في حروبه بين الأعوام 1980-2003.
وإنتاج الكهرباء يتزايد بمتوالية عددية والطلب يتزايد بمتوالية هندسية، لكن الضائعات «الفقد» الفنية بسبب النقل المتهالك تستنزف قرابة 30% من الإنتاج والضائعات التجارية تقارب 30% أيضاً.
والحاجة الفعلية للكهرباء في وقت الذروة تناهز حالياً 50 ألف ميغاواط، والإنتاج بحدود 28 ألف ميغاواط.
والتوجه الحكومي الآن نحو الطاقات النظيفة، لا سيما الطاقة المتجددة (الشمسية) وفي النية إنشاء هيئة حكومية لدعم وتطوير الطاقات المتجددة مع الاستمرار بالطاقات التقليدية.
وشخصياً أؤيد النهج الجديد الذي يعمل على النهوض بالطاقة الكهربائية التقليدية، ولا سيما باستغلال الغاز المصاحب الذي سيتوقف حرقه وتصفيره تماماً لمصلحة إنتاج الطاقة الكهربائية التقليدية.
هناك لجنتان وطنيتان تعملان على مكافحة الفساد، وهما ذراعان قويان يكافحان الفساد خارجياً وداخلياً، وتتمثل اللجنة الأولى في «صندوق استرداد الأموال» الذي يرتبط بهيئة النزاهة الوطنية الذي يتولى ملاحقة واسترجاع أموال الفساد التي هربت خارج البلاد، وتعمل هذه اللجنة في سياق قانوني ينسجم واتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، واللجنة الثانية، لجنة إجرائية مساندة لأعمال النزاهة الوطنية، وتلاحق الفساد الكبير والمنظم، وتستند إلى تطبيقات القانون والقضاء بالعراق.
تسجل الرواتب ومعاشات التقاعد نحو 90 تريليون دينار (69 مليار دولار) أي أكثر من 40% من الموازنة، وتحرص الحكومة في أولوياتها على تأمين تدفق المصروفات التشغيلية للرواتب والأجور والمعاشات التقاعدية والرعاية الاجتماعية.
وتعدها أولوية اجتماعية وأخلاقية في سير واستقرار حياة الأسرة العراقية، لكون تلك النفقات تشكل دخلاً أسرياً، وتمس حياة ما لا يقل عن 30 مليون مواطن عراقي.
نحن أمام خيار بقاء اتفاقية الإطار الإستراتيجي الموقعة مع الولايات المتحدة في 2008 صمام الأمان والاستقرار الاقتصادي.
وستكون المحاصصة السياسية وتوافقاتها على مساوئها أداة لامتصاص موجات سياسة الاحتواء الصلبة لـ«الترامبية الجديدة» وإظهار أكثر من زاوية تجعل العراق في حالة موحدة إزاء مخاطر السياسات الخارجية الأميركية الجديدة.
وبشأن احتمال تدهور أسعار النفط العالمية، فهناك ثلاثة قيود تمنع ذلك.
الأول، أن الولايات المتحدة لا تزال أكبر منتج للنفط في العالم، وقد وظفت شركات النفط الأميركية الكبرى استثمارات عالية تنسجم مع سعر برميل نفط لا يقل عن 70 دولاراً للبرميل لتغطية تكاليف إنتاج النفط الصخري عند نقطة التعادل، وهذا سعر يتوافق مع سعر النفط بالموازنة العراقية.
والقيد الثاني يتمثل في عدم تضحية سياسة ترامب بدور الدولار النفطي كعملة دفع متفوقة، لتُدخل البترودولار في مأزق بجعله عملة هابطة يفوق العرض منه على الطلب عليه، في وقت تسعى الولايات المتحدة وسياستها الخارجية الجديدة بجعل الدولار العملة الأقوى في العالم.
ولن يعني ضعف عوائد الدولار الأميركي النفطي لبلدان «أوبك» عموماً والعراق خصوصاً، أو تدهورها سوى إضعاف للعملة النفطية العالمية، ومرتكز هيمنتها الدولار النفطي.
أما القيد الثالث فيتمثل في أن تدهور أسعار النفط سيسمح للصين، وهي أكبر مستورد للنفط في العالم، بالحصول على موارد طاقة رخيصة على حساب أسواق الطاقة، وهو أمر قد لا تسمح به الولايات المتحدة.
هناك مبدأ في المالية العامة يسمى الحيز المالي، وإذ عملت السياسة المالية للحكومة العراقية تجاه ذلك الحيز المالي في الاقتصاد فذلك يعني أن وتيرة الإنفاق عموماً، والإنفاق الاستثماري على المشاريع خصوصاً لن يعرقلها النقص الوقتي في تدفق انتظام الإيرادات العامة في بعض الأشهر.
لذا، فإن الأداء الجيد للحيز المالي يشير إلى قدرة الحكومة على زيادة الإنفاق أو الدعم الاجتماعي في إسناد الاقتصاد من دون أن يتسبب في مشاكل مالية خطيرة مثل التضخم أو العجز الكبير.
ولا يزال هذا الحيز متاحاً، خاصة أن الأوضاع المالية للدولة جيدة، ما يتيح للحكومة إمكانية اتخاذ سياسات مالية لتحفيز النمو الاقتصادي، كزيادة الإنفاق على البنية التحتية أو تحسين الخدمات الاجتماعية، بصرف النظر عن الإنفاق الحكومي وارتفاعه قليلاً بين العامين 2023 و2024، ما يعني أن الانضباط المالي في العراق والقدرة على التكيف هما في مستوى عال جداً، وهذا ما نتوقعه في العام القادم 2025.
والموازنة الثلاثية (2023، و2024، و2025) وضعت عجزاً سنوياً قدّرته افتراضياً استناداً لسعر برميل النفط 70 دولاراً، فإذا زاد سعر برميل النفط سيقل العجز، وإذا انخفض عن 70 سيكون عجزاً فعلياً، وتضطر الحكومة معه بالتأكيد أن تقترض.
وتقدير أي عجز بالموازنة تراجعاً أو ارتفاعاً في 2025 سيكون حسب أسعار أسواق الطاقة خاصة، وقد باع العراق سعر برميل النفط في 2023 بمتوسط 70 دولاراً وفي 2024 بمتوسط 75 دولاراً، وننتظر أن نرى سعر النفط «الحاسم» في 2025.
لا تعويم للدينار العراقي، ونظام الصرف الثابت يستند فيه الدينار العراقي إلى احتياطات أجنبية ما زالت الأعلى في تاريخ البلاد النقدي، لذا لا علاقة بين القوة الشرائية للدخل النقدي للمواطن في بلادنا والسوق الموازي للصرف، وهناك تباعد كبير بينهما.
ويعود ذلك إلى أن تمويل تجارة العراق الخارجية عموماً، وتجارة القطاع الخاص الخارجية على وجه التحديد يتم بسعر الصرف الرسمي الثابت البالغ 1320 ديناراً لكل دولار أميركي، فضلاً عن تمويل خدمات السياحة والسفر بالسعر الرسمي، سواء بالدولار النقدي المتحصل عليه بالوسائل الرسمية أم ببطاقات الدفع الرقمية، وجميعها تتم بالسعر الرسمي وبحرية ومرونة عاليتين.
كما أن تداول الدولار في السوق الموازي، الذي يُبْتَاع بنحو 1500 دينار، لا يشكل حيزاً مهماً في عمليات التمويل الخارجي أو التأثير في الاستقرار الاقتصادي الكلي باستثناء دورها في عمليات غسل الأموال أحياناً أو تمويل التجارة الحدودية وهي تجارة غير شرعية.
ففي مثل هذه الحالة باتت التجارة الحدودية مكلفة وغير تنافسية ولا تشجع على الاستمرار بشكل مستقل.
وبناء على ما تقدم، فإن مؤشر الاستقرار السعري العام السنوي في العراق ما زال دون 4% سنوياً، وهو متوسط تضخم لا يعكس أي أهمية لدور السوق السوداء أو السوق الموازية في الاقتصاد الوطني، إزاء احتياطيات البلاد الرسمية من العملة الأجنبية التي تزيد على 100 مليار دولار، وتمثل نسبة تغطية للعملة المصدرة تفوق نسبة 140%.
السعر الرسمي للصرف يغطي 90% من حاجة السوق المحلي للعملة الأجنبي، والسوق الموازي لا يغطي سوى 10% من احتياجات سوق الصرف، وبضوضاء ملونة وغموض غير معروف والفرق يرتبط بالتهرب من الامتثال عن مصادر الأموال لمعرفة تدفق الأموال، وهو نمط من عمليات غسل الأموال الذي يقود الأسواق الموازية والسوداء في العالم عموماً.
وتولّد السوق الموازية أسعار صرفها التي لا ترتبط بالقوة الشرائية الحقيقية للدينار العراقي، وفي الأحوال كافة فإن حياة المواطن المعيشية اليومية لا علاقة له بها، فهي أشبه باقتصاد المضاربة.