ما بدأ كمجرّد انتقادات علنية من الرئيس الأميركي دونالد ترامب لرئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، تحوّل اليوم إلى واحدة من أكثر المعارك الرمزية حول مستقبل استقلال المؤسسات في النظام الأميركي. فبينما يعود ترامب إلى البيت الأبيض، ويسعى لإعادة تشكيل السياسات الاقتصادية بما يخدم أجندته، يجد في باول عقبة يصعب تجاوزها.
ترامب لم يُخف يوماً ضيقه من سياسات باول. ومنذ أن عيّنه بنفسه عام 2018، لم يتوقف عن مطالبته بخفض أسعار الفائدة، متّهماً إياه بتقويض النمو عبر «بطء الاستجابة». واليوم، وبينما تتصاعد التوترات التجارية، وتزداد الضغوط التضخمية الناتجة عن الرسوم الجمركية، يزداد الصدام بين الطرفين حدّة، ليتحول إلى سؤال دستوري محوري:
هل يحق للرئيس الأميركي أن يقيل رئيس البنك المركزي لمجرد اختلاف في التوجهات؟
في صيف 2019، وبينما كان ترامب يشتدّ في حملته لضرب الصين اقتصادياً عبر رسوم جمركية تصاعدية، خرج باول بتصريحات حذرة تحذّر من آثار هذه السياسات على النمو العالمي. هذا التصريح وحده كان كفيلاً بإشعال غضب ترامب. وعلى تويتر كتب حينها: «من عدو أميركا الأسوأ؟ شي جينبينغ أم جيروم باول؟»، واضعاً رئيس الفيدرالي على قدم المساواة مع خصومه السياسيين.
هذا النوع من التصريحات لم يكن عرضياً، بل مقدّمة لمحاولات ضغط أكثر جدّية. ترامب بدأ يتحدث علناً عن سلطة الرئيس في عزل رئيس الفيدرالي. في إحدى مقابلاته قال: «إذا أردته أن يرحل، فسيرحل بسرعة». تصريح قد يبدو عابراً، لكن في أميركا التي تقوم مؤسساتها على مبدأ التوازن والفصل بين السلطات، مثل هذا الكلام يهزّ الأرض تحت أقدام أسواق المال.
المؤسسة الوحيدة التي تملك الحصانة القانونية أمام هذه النزعة السلطوية هي المحكمة العليا. وفعلاً، استند كثير من الخبراء في دفاعهم عن باول إلى قرار تاريخي للمحكمة عام 1935 في قضية «منفذ همفري»، الذي نصّ على أن المسؤولين في الوكالات المستقلة لا يمكن عزلهم لمجرد الخلاف السياسي، بل فقط لأسباب جسيمة مثل الإهمال أو الفساد.
جيروم باول استند إلى هذه السابقة أيضاً. في مؤتمر صحفي عام 2020، قال بوضوح: «أعتقد أن القانون واضح في هذا الصدد. ولا أنوي الاستقالة مهما كانت الضغوط». بهذه الجملة، لم يكن باول يدافع عن منصبه فقط، بل عن مبدأ أوسع: أن السياسة النقدية يجب أن تُدار بحسابات علمية طويلة الأجل، لا بانفعالات حملات انتخابية.
الخطر في هذا الصراع لا يكمن فقط في عزل رئيس البنك المركزي، بل في سابقة قد تُستخدم لاحقاً لإخضاع كل الهيئات المستقلة. المحكمة العليا الآن تنظر في قضية أخرى تخص سلطة الرئيس على لجنة الأوراق المالية والبورصات، وإذا تم تقويض حكم «منفذ همفري»، فقد يكون الفيدرالي التالي على القائمة.
اللافت أن بعض القضاة المحافظين، الذين عينهم ترامب نفسه، أبدوا ملاحظات قد تمهّد لموقف أكثر مرونة تجاه تدخل الرئاسة. القاضي صامويل أليتو مثلاً أشار إلى أن «الاحتياطي الفيدرالي حالة فريدة»، ما قد يوحي بنيّة إبقائه محمياً، لكن من دون توسيع الحماية لباقي المؤسسات.
خارج قاعات المحكمة، يراقب المستثمرون هذا النزاع بقلق بالغ. إذا تزعزعت استقلالية الفيدرالي، فإن أول ضحاياه سيكون الثقة بالدولار كعملة احتياطية عالمية. وقد ينهار خط الدفاع الأول في مواجهة التضخم، إذ لن يكون البنك المركزي حراً في اتخاذ قرارات غير شعبية كرفع الفائدة، إنْ كانت تلك القرارات تتعارض مع رغبات البيت الأبيض.
ومع عودة ترامب من جديد، تبدو هذه المعركة مرشحة للاشتعال مرة أخرى. حتى لو لم يتمكن من عزل باول قبل نهاية ولايته في 2026، فإن مجرد التلويح بالأمر يكفي لبثّ القلق في الأسواق.
لا شيء في واشنطن يحدث من فراغ. فالمعركة التي بدأت بتغريدة من ترامب، قد تتحوّل إلى نقطة انعطاف في تاريخ الاقتصاد الأميركي. من يسيطر على السياسة النقدية؟ هل تظل قرارات الفيدرالي بمعزل عن الحملات السياسية؟ أم أننا نشهد بداية نهاية الاستقلال المالي الذي افتخرت به أميركا لعقود؟
في النهاية، يبقى الصراع بين الرئيس ترامب ورئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول قضية حاسمة بالنسبة لمستقبل العلاقة بين السياسة النقدية والسياسة الاقتصادية في الولايات المتحدة. ومع استمرار الضغوط السياسية على الاحتياطي الفيدرالي، يظل السؤال حول استقلالية هذه المؤسسات وقوة دساتيرها دون إجابة واضحة، ما يجعل المواجهة بين الطرفين تمثل تحدياً لمبادئ الفصل بين السلطات في النظام الأميركي.