تواجه آسيا اليوم اختباراً صعباً لقدرتها على الصمود الاقتصادي، بعدما أصبحت في قلب التصعيد التجاري العالمي، خاصة مع بلوغ الرسوم الجمركية الأميركية أعلى مستوياتها منذ قرن. ورغم أن المنطقة ساهمت بنحو 60% من النمو العالمي في 2024، فإن نموذجها القائم على الانفتاح التجاري وسلاسل القيمة يتعرّض لضغوط متزايدة.
البيئة العالمية أصبحت أكثر تعقيداً، بحسب تقرير لصندوق النقد الدولي لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ. التصعيد الحاصل بين الولايات المتحدة والصين، إلى جانب عدم اليقين في السياسات التجارية، انعكس على التوقعات الاقتصادية للمنطقة. النمو في آسيا والمحيط الهادئ يُتوقَّع أن يتراجع إلى 3.9% هذا العام، بعد أن كان 4.6% في 2024، وهي أكبر مراجعة هبوطية منذ جائحة كورونا. أما في 2026، فيُرجّح أن يبلغ 4% فقط، ما يعكس بيئة خارجية غير مواتية وتراجع زخم التعافي.
الضعف الاقتصادي لا يقتصر على دولة أو فئة واحدة، فالدول المتقدمة في آسيا مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة مرشّحة لنمو لا يتجاوز 1.2% في 2025، أي أقل بـ0.7 نقطة مئوية عن التوقعات السابقة. في اليابان، يُنتظر تحسّن طفيف إلى 0.6% مدفوعاً بنمو الأجور الحقيقية، لكنه يظل نمواً هشاً أمام الضغط الخارجي، وفقاً لتقديرات الصندوق.
أما في الاقتصادات النامية، فمن المتوقّع أن يتباطأ النمو إلى 4.5%، خصوصاً في الصين، حيث ستُخفف الموازنة التوسعية للعام 2025 من آثار الرسوم، لكن النمو سيظل ضعيفاً عند نحو 4% هذا العام والعام المقبل، وهو مستوى أقل من متوسط النمو في العقد الماضي. ويشير الصندوق إلى أن التحديات التي تواجه الصين هيكلية، وتشمل ضعف ثقة المستهلكين وتباطؤ قطاع العقارات.
الهند، الأقل انفتاحاً تجارياً مقارنة بجيرانها، ستشهد تباطؤاً معتدلاً إلى 6.2% و6.3% في 2025 و2026 على التوالي، وفق الصندوق، بينما سيتراجع نمو دول الآسيان إلى 4.1%، بفعل الصدمات الخارجية وضعف الطلب المحلي. وتظهر هذه الأرقام مدى اتساع التأثير السلبي للتباطؤ التجاري العالمي على الاقتصادات المتنوعة في آسيا.
هذا التراجع في النمو يرتبط مباشرة بتباطؤ الطلب العالمي، وارتفاع تكلفة التمويل، وتقلّب الأسواق، فضلاً عن تزايد الاعتماد على التصدير في دول لم يتعافَ فيها الطلب المحلي بعد. وفي بعض الحالات، أدى ارتفاع الديون الأسرية إلى كبح الإنفاق الاستهلاكي، وهي ظاهرة واضحة في كل من كوريا الجنوبية وتايلند، بحسب ما أشار إليه الصندوق.
أمام هذه التحديات، تحتاج آسيا إلى استراتيجية مزدوجة: تعزيز الطلب المحلي من جهة، وتنويع الأسواق وتوسيع التعاون الإقليمي من جهة أخرى. ويؤكد صندوق النقد أن الانتقال نحو مصادر نمو أكثر استدامة من خلال الإصلاحات الهيكلية أصبح أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى.
في الصين، يُمكن تعزيز الثقة عبر شبكات حماية اجتماعية أكثر فاعلية لتشجيع الاستهلاك، وهو ما شدد عليه خبراء الصندوق ضمن توصياتهم الدورية. وفي تايلند، بدأت السلطات بالفعل بتقديم برامج لإعادة هيكلة ديون الأسر، ما يُمكن أن يدعم الطلب المحلي، ويخفف عبء الديون.
على الجانب الآخر، يرى الصندوق أن تنمية الاستثمار الخاص يتطلب تحسين بيئة الأعمال، وإصلاح أسواق العمل، وضخ استثمارات أكبر في التعليم والصحة، وهي عناصر اعتبرها الصندوق ضرورية لضمان نمو أكثر شمولاً واستقراراً.
وفي مجال التجارة، يرى صندوق النقد أن هناك فرصة حقيقية لتعميق التكامل الإقليمي، خصوصاً في رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، مع إمكانات كبيرة لزيادة التجارة البينية، ليس فقط في السلع، بل أيضاً في الخدمات والاقتصاد الرقمي. اتفاقيات مثل "الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة" يمكن أن تؤدي دوراً حاسماً في هذا المسار، لا سيما مع بروز قوى رقمية مثل سنغافورة وكوريا والهند.
إدارة المرحلة الراهنة تتطلب توازناً دقيقاً في السياسات المالية والنقدية. ويوصي صندوق النقد أن تواصل الحكومات تقديم الدعم المطلوب للقطاعات المتضررة، ولكن ضمن إطار مالي مستدام. هذا يعني إنفاقاً مستهدفاً ومحدوداً زمنياً، إلى جانب تبنّي مسارات تدريجية لضبط العجز المالي وتقليل الدين العام على المدى المتوسط.
الهند مثلاً، وضعت قواعد لضبط الدين العام، وتركّز على تحسين كفاءة إدارة الضرائب مع الحفاظ على الإنفاق الاجتماعي، بحسب ما أشار إليه الصندوق. منغوليا عزّزت قوانينها المالية لتعزيز الشفافية والرقابة، وسريلانكا بدأت بجني ثمار الإصلاحات، إذ ارتفعت إيراداتها الضريبية، وتقلّص العجز المالي منذ 2022.
هذه النماذج، بحسب الصندوق، تقدّم مسارات واقعية لكيفية تحقيق التوازن بين دعم النمو وضمان الاستدامة المالية، في سياق عالمي محفوف بالمخاطر.
لكن بناء المرونة لا يقتصر على الأدوات المالية. يؤكد صندوق النقد أن آسيا بحاجة إلى إصلاحات طويلة المدى لتعزيز الإنتاجية، وخاصة عبر تبنّي الذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة. فالتباطؤ في إنتاجية الاقتصادات الناشئة خلال العقد الأخير يُمكن عكسه من خلال الاستثمار في المهارات، وتحديث البنية التحتية، وتحسين الإطار التنظيمي للتكنولوجيا.
إلى جانب ذلك، فإن توسيع أسواق المال، وتعزيز الشمول المالي، وتحسين الحوكمة، ضرورية لبناء اقتصادات أكثر قدرة على امتصاص الصدمات.
أما دول المحيط الهادئ، فعليها التركيز على تعزيز مرونتها المناخية، بحسب توصيات الصندوق، مع ضرورة حصولها على تمويلات مناخية كافية لمواجهة التحديات البيئية المتصاعدة، التي تُعد تهديداً مباشراً للاستقرار الاقتصادي في تلك الدول.
التوترات التجارية ستبقى مصدر قلق، لكن التحدي الحقيقي هو تحويل هذا الضغط إلى فرصة لإعادة هيكلة النمو. من خلال السياسات الذكية والإصلاحات الجريئة، يمكن لآسيا أن تتحوّل من «مصنع العالم» إلى مركز اقتصادي أكثر تنوعاً ومرونة واندماجاً.
الظروف صعبة، لكنها ليست مستحيلة. المطلوب اليوم، كما يشير صندوق النقد، هو قرارات شجاعة تضمن توازناً بين الدعم الفوري والإصلاحات العميقة، وبين تعزيز الأسواق المحلية وتوسيع العلاقات التجارية الإقليمية. ففي عالم يتغيّر بسرعة، تبقى المرونة الاقتصادية مفتاح الصمود والازدهار في آسيا.