وقمة رؤساء دول وحكومات مجموعة العشرين، التي عقدت في نهاية الأسبوع الماضي في نيودلهي، كانت مثالاً واضحاً على ذلك بعد أن تمكنت بلدان الجنوب من التعبير عن أهدافها، وأثرت في المناقشات وفقاً لصحيفة لي زيكو الفرنسية.
وفي مواجهة التوترات الجيوسياسية الناجمة عن الحرب في أوكرانيا والتنافس بين الولايات المتحدة والصين، تعيد الدول الصناعية النظر بعمق في استراتيجيتها، وبات الاقتصاد العالمي يسير على الطريق نحو عملية تكوين جديدة.
وقالت المحللة جيزابيل كوبي-سوبيران الأسبوع الماضي، بمناسبة نشر مركز الدراسات الاستشرافية والمعلومات الدولية كتابا بعنوان "الاقتصاد العالمي عام 2024 :"إن الإيمان بفضائل الأمس ومزاياه لم يعد صالحاً".
وبالنسبة للمحررة المشاركة في الكتاب، فإن هذا النموذج الجديد يؤدي إلى رغبة البلدان الصناعية في تقليل اعتمادها على سلاسل القيمة العالمية للمنتجات الاستراتيجية، بينما يشهد العالم توترات جيوسياسية جذرية ويحتاج للانتقال إلى نموذج النمو، الذي يشجع على المزيد من التجديد والابتكار.
وأصبح إجماع واشنطن الذي تم التوصل إليه في الثمانينيات، بشأن الخصخصة وتحرير التجارة، يهتز ويتأرجح. وقال توماس جريبين، الخبير الاقتصادي المسؤول عن الاقتصاد الكلي والتمويل الدولي في مؤسسة "سيبي": "إن هذا الإجماع على وشك أن يتم تبديله بنموذج جديد يهدف لعودة الدول إلى إدارة اقتصادها بطريقة لم يعد الانفتاح فيها يعتبر غاية في حد ذاته".
فالحرب في أوكرانيا تدعو إلى التشكيك بفوائد التجارة الناعمة، والاعتقاد بأن تحرير التجارة من شأنه أن يجعل الاقتصادات المدرجة في الاقتصاد العالمي، تتقارب من النموذج الغربي.
ويعتبر توماس جريبين أن السياسات الصناعية تشكّل الركيزة التي يقوم عليها هذا الإجماع الجديد. وفي الولايات المتحدة، لا يهدف قانون الحد من التضخم إلى مكافحة تغّير المناخ فحسب، بل وأيضاً إلى وضع البلاد تقود السباق نحو صناعات الغد. ويسير الاتحاد الأوروبي أيضاً على نفس المسار، إذ إنه يعود إلى خيارات إعادة التصنيع نحو قطاعات المستقبل.
هل دقّ الناقوس الذي ينذر بموت التجارة الحرة؟ على الصعيد التجاري، قال جريبين :"لم يعد الوقت مناسباً للتجارة الحرة الجامحة، بل للبحث عن تحالفات مع الدول الصديقة في المجالات الاستراتيجية". وكانت وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين قد حدّدت هذه الإستراتيجية منذ أبريل 2022.
وفي ظل العولمة، أصبح الأمن هو المعيار الرئيسي للقرارات الصناعية."إن الحرب في أوكرانيا تدعو إلى التشكيك بفوائد التجارة الناعمة والاعتقاد بأن تحرير التجارة سيجعل الاقتصادات المدرجة في الاقتصاد العالمي تتقارب نحو النموذج الغربي" كما يوضح جريبين الذي أضاف"أن قرار الولايات المتحدة بتغيير البرمجيات وإنشاء إعادة التصنيع ومكافحة تغير المناخ كأولوية، باستخدام الحمائية، يبدو وكأنه نهاية هذا العصر حيث كان تحرير التجارة والتمويل هو المرجع والمعيار.
وبالنسبة للخبير الاقتصادي في "سيبي"، فإن نماذج النمو التي تم تطويرها في الثمانينيات عبر تعزيز الديون والنمو من خلال الطفرات العقارية على حساب الابتكار والنسيج الإنتاجي المحلي بدأت تتلاشى.
وكانت عدة دول فضّلت قطاع البناء العقاري كإسبانيا والصين وفرنسا، وغيرها من الدول أيضاً. وأفاد الخبير الاقتصادي بأن فرنسا أنفقت في عام 2021 ، ما يقرب من 1.5 نقطة من الناتج المحلي الإجمالي أكثر من ألمانيا، لمساعد قطاع البناء والإسكان.
ومع تراجع أسعار العقارات في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والصين بسبب تشديد السياسات النقدية من جانب البنوك المركزية، بدأ أحد محركات النمو العالمي في التراجع، ومن هنا جاءت فكرة إعادة التصنيع.