تونس تخسر نحو 967 مليون دولار سنوياً جراء التهرب الضريبي
في قلب المشهد التونسي، يقف الاقتصاد الموازي كقوة ضخمة تتحرك في الظل، بعيداً عن الرقابة والقوانين، لكن بثقل هائل يكاد يعادل 40% من حجم الناتج المحلي الإجمالي.
وتعد هذه الظاهرة سيفاً ذا حدين، فهي من جهة توفر فرص عمل ودخلاً لكثير من التونسيين، ومن جهة أخرى تسلب الدولة موارد ضريبية هائلة، وتضعف الاقتصاد الرسمي.
ومع تفاقم الأزمات الاقتصادية والمالية في تونس، أصبح دمج هذا الاقتصاد الموازي ضمن المنظومة الرسمية هدفاً استراتيجياً قد يحمل الحلول لأزمات متجذرة، لكن تحقيقه لا يخلو من تحديات معقدة.
وتكشف بيانات المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية، وهو جهة مستقلة، عن أن الاقتصاد الموازي يمثل 40% من الناتج المحلي الإجمالي ما يعادل نحو 70 مليار دينار (22.58 مليار دولار)، ما يبرز حجم الأنشطة التجارية والمالية التي تعمل خارج إطار الأنظمة الرسمية.
ويؤدي الاقتصاد غير الرسمي إلى خسائر موارد مالية كبيرة للدولة التونسية، باعتبار أن التجارة الموازية تنشط خارج الإطار القانوني، ووفقاً للبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، فإن تونس تخسر نحو 3 مليارات دينار (967 مليون دولار) سنوياً جراء التهرب الضريبي.
وتشمل أنشطة الاقتصاد الموازي أو غير الرسمي تجارة السلع والمنتجات في الأسواق غير المنظمة، وكذلك الشركات الصغيرة التي تعمل في ورشات أو محلات دون تراخيص. وعادة ما يتفادى هذا القطاع الكبير دفع الضرائب واتباع القوانين والأنظمة المعمول بها، مما يؤدي إلى خسارة الدولة لموارد ضريبية ضخمة يمكن أن تُستثمر في تحسين الخدمات العامة والبنية التحتية.
وفي حديث مع «إرم بزنس» يوضح أستاذ الاقتصاد بكلية العلوم الاقتصادية بجامعة قرطاج رضا الشكندالي، أن ارتفاع الضرائب على الشركات والتي تقدر حالياً بنحو 35% قد ترتفع إلى 40% في حال إقرار البرلمان لمشروع قانون موازنة 2025، ما قد يدفع الكثير من أصحاب الأعمال للاقتصاد الموازي هرباً من الضرائب.
ويخلق هذا الوضع بيئة غير تنافسية، حيث تصطدم الشركات التي تعمل وفقاً للقوانين مع منافسة غير عادلة من الجهات العاملة خارجها، وفق أستاذ الاقتصاد.
من جهة أخرى، يرى الشكندالي، أن الاقتصاد الموازي يشكل ملاذاً للكثير من التونسيين الذين لا يجدون فرصاً في الاقتصاد الرسمي، مما يساهم في تقليص البطالة، ويوفر دخلاً للفئات ذات الدخل المحدود، محذراً من أن الاعتماد المفرط على هذا القطاع يعرقل التقدم الاقتصادي المستدام، ويزيد تفشي الفقر في بعض المناطق.
وتشير بيانات منظمة العمل الدولية والبنك الدولي إلى أن عدد التونسيين الذين يعملون في أنشطة الاقتصاد الموازي يقدر بـ1.6 مليون شخص ما يمثل 43% من حجم القوى العاملة، ويؤدي ذلك إلى خسائر ضريبية للدولة بنحو 977 مليون دولار جراء العمالة غير الرسمية.
ومن أجل تقنين الاقتصاد الموازي في تونس، يرى المختص في التنمية الاقتصادية وليد بلحاج، والذي شغل سابقاً منصب نائب رئيس المعهد العربي لرؤساء المؤسسات وهو مركز دراسات مستقل، أن هذا الأمر يتطلب خطوات شاملة تنطوي على إصلاحات هيكلية في النظام الاقتصادي والضريبي.
أولى هذه الخطوات، وفق حديث بلحاج مع «إرم بزنس»، هي تبسيط النظام الضريبي، على الأنشطة غير الرسمية وهو ما سيكون عامل جذب هاماً لتحفيز أصحاب الأعمال على الانضمام إلى الاقتصاد الرسمي، عبر تخفيف الأعباء الضريبية على المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في المراحل الأولى من تقنينها، مع تقديم حوافز مالية وضريبية تدعم هذه الانتقال.
إلى جانب ذلك، يشدد بلحاج على أهمية إصلاح التشريعات القانونية، التي قد تكون عائقاً أمام تسريع دمج الاقتصاد الموازي، إذ تتطلب الظروف الحالية تبسيط الإجراءات القانونية لفتح الأعمال الرسمية وتسجيلها، مع تشجيع الرقمنة في المعاملات التجارية لتسهيل تتبع الأنشطة الاقتصادية.
لكن تقنين الاقتصاد الموازي ليس بالأمر السهل، حيث يواجه تحديات معقدة على مختلف الأصعدة، كما ترى الباحثة المستقلة ألفة السلامي، منها صعوبة إقناع العديد من أصحاب الأعمال في هذا القطاع بالانضمام إلى الاقتصاد الرسمي، خاصةً وأنهم يعتبرون أن التكلفة الإدارية والضريبية ستكون عبئاً إضافياً عليهم، مما يدفعهم للاستمرار في الأنشطة غير الرسمية.
إضافة إلى ذلك، تعتبر السلامي، في حديث مع «إرم بزنس»، أن البيروقراطية في التعاملات الحكومية من أبرز العوامل التي تعيق تحول الاقتصاد الموازي إلى اقتصاد رسمي، لذا يجب تسهيل عملية الانتقال وتوفير تسهيلات لوجستية ودعم حكومي للمشاريع الصغيرة والمتوسطة.
وخلال العام الجاري، كانت عملية دمج الاقتصاد الموازي ومكافحة التهرب الضريبي أولوية للحكومة التونسية، وذلك في إطار تحقيق هدف التعويل على الذات لتوفير عائدات مالية لخزينة الدولة وتعزيز الاستقرار الاقتصادي للبلاد، وفق تصريحات سابقة لوزيرة المالية التونسية سهام البوغديري أدلت بها في يناير الماضي.
وأوضحت البوغديري أن الإصلاحات الاقتصادية التي تبنتها الحكومة منذ العام الماضي، شملت تقديم حوافز للمستثمرين الجدد، وتبسيط الإجراءات الإدارية، وتوسيع رقمنة الخدمات، وهو ما يحتاج إلى وقت لتحقيق نتائجه المرجوة، مؤكدة أهمية تضافر الجهود الوطنية لإنجاح هذه الخطوات.
كما يتضمن مشروع قانون موازنة 2025 حزمة من التدابير التي تستهدف استقطاب العاملين في القطاع غير الرسمي. ومن أبرز هذه التدابير، العفو الضريبي الذي تم إدراجه في قانون المالية لعام 2024 بهدف توسيع قاعدة المساهمين الضريبيين وتعزيز موارد الدولة.
ونص مشروع الموازنة على تأسيس خط تمويل بقيمة 10 ملايين دينار (3.1 مليون دولار) من موارد الصندوق الوطني للتشغيل لدعم رواد الأعمال الصغار. ويهدف هذا الخط إلى توفير قروض بشروط ميسرة تصل إلى 15 ألف دينار (حوالي 4.83 ألف دولار) للقرض الواحد، مع فترة سداد تمتد إلى سبع سنوات، تشمل عامين كفترة سماح. ويشمل هذا البرنامج جميع الأنشطة الاقتصادية، ما يسهم في دعم تنمية المشاريع الصغيرة وتحفيز العاملين في الاقتصاد الموازي للانضمام إلى المنظومة الرسمية.
وفي ظل الأزمات التي تشهدها تونس، فإن تقنين الاقتصاد الموازي بنجاح مع الاقتصاد الرسمي سينعكس على كافة مستويات الاقتصاد، ومن أهمها زيادة الإيرادات الضريبية، التي يمكن توجيهها لتحسين البنية التحتية، وتعزيز خدمات الصحة والتعليم.
كما أن دمج هذا الاقتصاد ضمن النظام الضريبي سيزيد العدالة الاقتصادية، ويحد من الفجوات التي يشهدها السوق بين الشركات الصغيرة والكبيرة. وستمنح هذه الخطوة العاملين في هذا القطاع المزيد من الأمان الوظيفي والحماية الاجتماعية، وستؤدي إلى تحسين المناخ الاستثماري في البلاد، في ظل شفافية الاقتصاد وتقليص المخاطر المرتبطة بالقطاع غير الرسمي.
ورغم أن تقنين الاقتصاد الموازي في تونس يمثل فرصة ذهبية يمكن أن تتحول إلى رافعة حقيقية للنمو الاقتصادي وتحسين بيئة الأعمال وجذب الاستثمارات وزيادة الموارد المالية للدولة، لكن هذا يتطلب استراتيجيات مدروسة تنطوي على إصلاحات هيكلية في السياسات الضريبية والتنظيمية.