رسّخت الصين دورها كلاعب اقتصادي وسياسي ذي تأثير متزايد في منطقة الشرق الأوسط، على مدار عقود، لتضع قواعد استراتيجية تعد بالكثير من الثمار مستقبلاً، وسط تغيرات جيوسياسية تزيد من التحديات.
وبصفتها أكبر مستهلك للنفط الشرق أوسطي، توسعت الروابط الاقتصادية للصين مع المنطقة بشكل كبير، حيث زاد التبادل التجاري بين الطرفين بما يتجاوز 3 أضعاف خلال العقدين الأخيرين.
وخلال السنوات الأربع المقبلة، ستواصل الصين تطوير نهجها الاستراتيجي، مع التركيز على تنويع روابطها الاقتصادية، وزيادة مشاركتها في الأمن والسلام الإقليمي، ومواجهة الديناميكيات الجيوسياسية المتغيرة الناجمة عن صراعات مثل حرب غزة، وفقاً لما ذكره تقرير مؤسسة بروكينغز.
ويشكل أمن الطاقة أساس استراتيجية الصين في الشرق الأوسط، فاعتمادها على واردات النفط يجعل المنطقة شريكاً لا غنى عنه.
وفي عام 2022، جاء نحو 53% من النفط الخام الصيني من الشرق الأوسط، مع مورّدين رئيسين مثل السعودية والإمارات والعراق وعُمان والكويت وقطر وإيران. وقد ارتفعت واردات الصين بنسبة 10% في 2023، لتصل إلى أعلى مستوى لها بواقع 11.3 مليون برميل يومياً.
بحسب التقرير، صاغت الصين استراتيجيتها للطاقة لتجنب الاعتماد المفرط على دولة واحدة. ويشدد الخبراء في بكين على ضرورة ألا تتجاوز واردات الصين من أي مورد 20% من إجمالي احتياجاتها النفطية، سواء كانت من روسيا أو السعودية.
ورغم هذه الجهود، يبقى اعتماد الصين على النفط الشرق أوسطي أمراً حيوياً دون وجود بدائل قريبة. والأكثر من ذلك، يعتبر اعتماد الصين على النفط الشرق أوسطي أولوية استراتيجية تركز على تأمين استقرار إنتاج الطاقة وضمان تدفق النفط عبر طرق الشحن الحيوية.
وبالتالي، فإن أي نزاع يعطل الإنتاج أو النقل قد يؤثر بشكل كبير على أمن الطاقة في الصين، مما يستدعي الحفاظ على الاستقرار في المنطقة.
وتواصل الصين توسيع تأثيرها الاقتصادي في الشرق الأوسط من خلال العديد من القطاعات. ففي عام 2022، بلغت صادراتها إلى المنطقة حوالي 229 مليار دولار، مع تصدر الآلات وقطع الغيار للجزء الأكبر. فيما بلغت وارداتها من الشرق الأوسط 278 مليار دولار، والتي كانت في الغالب متمثلة في الموارد الطبيعية.
وتوسّع الصين تأثيرها بشكل ملحوظ في مجالات تطوير البنية التحتية والطاقة المتجددة والتكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي في الشرق الأوسط.
وتتماشى هذه التحركات مع «مبادرة الحزام والطريق» التي تهدف لتعزيز التنمية الإقليمية عبر استثمارات في مشاريع البنية التحتية. كما أتاحت «رؤية السعودية 2030» فرصة للصين لتعميق روابطها الاقتصادية مع المنطقة.
تقرير «بروكينغز» توقع أيضاً، أن تقوم الصين بتوسيع وجودها الاقتصادي في الشرق الأوسط خلال السنوات المقبلة، متجاوزة التجارة في السلع إلى نطاق أوسع من المعاملات الخدمية.
كما تسعى الشركات الصينية في مجال الذكاء الاصطناعي إلى عقد شراكات لزيادة حصتها في السوق، ليصبح التعاون في التكنولوجيا الرقمية مجالاً رئيساً للعلاقات.
من جانب آخر، تواجه الدبلوماسية الصينية في الشرق الأوسط تحديات متزايدة. فعلى الرغم من علاقاتها الجيدة مع قوى إقليمية متعددة مثل السعودية وإيران وإسرائيل، فقد كشفت حرب غزة عن حدود الحياد الذي تتبناه الصين، مما دفع البلاد لإعادة النظر في نهجها، على حد قول المركز.
وأوضح التقرير أن حرب غزة، التي وضعت ضغوطاً على علاقات الصين في المنطقة، قد تؤثر على استراتيجياتها الدبلوماسية. فرغم أن الصين تعتبر تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية هدفاً بعيد المدى، إلا أنها تدرك أن هذا التحول قد يضعف جهودها لتقليص النفوذ الأميركي في المنطقة.
وباعتبارها شريكاً رئيساً في مواجهة الهيمنة الأميركية في الشرق الأوسط، من المحتمل أن تدعم الصين جهود إيران لإعادة البناء واستعادة النفوذ بعد خسائرها في المنطقة. وقد وقعت بكين بالفعل اتفاقاً اقتصادياً لمدة 25 عاماً مع إيران في 2021، رغم أن تنفيذ هذا الاتفاق كان بطيئاً. وفي المستقبل، قد تسعى الصين لتعزيز علاقاتها مع طهران من خلال زيادة واردات النفط واستثمارات في مشاريع البنية التحتية، إضافة إلى تقديم دعم دبلوماسي لموقع إيران الإقليمي.
وعلى مدار عام ونصف العام، اختبرت الحرب في غزة أيضاً العلاقة الصينية مع إسرائيل، فمن خلال رفض تصنيف حماس كمنظمة إرهابية وانتقادها المستمر لإسرائيل بسبب تحركاتها، وضعت الصين نفسها في مواجهة مع أقرب حليف لإسرائيل، وهو الولايات المتحدة.
رغم هذه التحديات، أشار التقرير إلى أن البراغماتية الصينية قد تساعد في إصلاح علاقاتها مع إسرائيل، خاصة إذا أسفرت أزمة غزة عن نوع من المصالحة بين إسرائيل والسعودية. ومن المتوقع أن تسعى الصين، لإعادة بناء علاقاتها مع إسرائيل عبر الدبلوماسية، التجارة، والتبادلات الثقافية.
سعت الصين في السنوات الأخيرة إلى لعب دور أكبر في حل النزاعات والسلام الإقليمي. ففي عام 2023، توسطت في اتفاقية سلام بين السعودية وإيران، مما يعد أولى محاولاتها الكبيرة في مجال الدبلوماسية الإقليمية، ورغم أن مدى دور الصين في الوساطة لا يزال محل نقاش، إلا أن الاتفاقية أبرزت تزايد تأثير بكين في الشؤون الإقليمية.
بالاستفادة من هذا النجاح، تعزز الصين مكانتها كلاعب رئيس في جهود السلام الإقليمي. وقد اقترحت بكين إطاراً جديداً للأمن في الشرق الأوسط، يرتكز على الحوار السياسي والالتزام بالقانون الدولي. تشمل رؤية الصين للسلام الإقليمي تنظيم مؤتمرات دولية للسلام حول فلسطين وتيسير الحوارات الأمنية بين إيران ودول الخليج.
ورغم التكهنات حول طموحات الصين العسكرية في الشرق الأوسط، أكد التقرير أنه من غير المرجح أن تقيم الصين وجوداً عسكرياً كبيراً في المنطقة خلال السنوات الأربع المقبلة. وأشار إلى أن تركيز الصين الأساسي لا يزال منصباً على منطقة غرب المحيط الهادئ، حيث تعد قضية تايوان مركزية. ورغم أن اعتماد الصين على النفط من الشرق الأوسط يثير تساؤلات حول احتياجاتها الأمنية، يعتقد المسؤولون في شركات النفط الصينية أن خطر تعطل الإمدادات يبقى قابلاً للإدارة.
وبدلاً من نشر القوات، من المرجح أن تواصل الصين تعزيز علاقاتها الأمنية في المنطقة من خلال التعاون الثنائي، بيع الأسلحة، وإجراء التمارين العسكرية المشتركة. وقد شهدت شراكات الصين مع دول مثل إيران والإمارات تقدماً في مجالات مثل إنتاج الطائرات المسيرة والتدريب المشترك، مما يشير إلى أن تأثير بكين في المنطقة سيزداد عبر هذه القنوات بدلاً من وجود عسكري مباشر.
ومع تطور استراتيجية الصين في الشرق الأوسط خلال السنوات الأربع المقبلة، أكد التقرير أن المنطقة ستبقى محوراً لأمن الطاقة في البلاد وأهدافها الجيوسياسية الأوسع. كما ستواصل الصين جهودها الاقتصادية والدبلوماسية لتشكيل مستقبل المنطقة.