في مشهدٍ غريب، تراجع الذهب رغم تصاعد التوترات التجارية العالمية بقيادة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مخالفًا توقعات المحللين الذين اعتادوا على ارتفاعه كملاذ آمن في أوقات الأزمات.
منذ الثالث من أبريل، شهدت أسواق الأسهم العالمية انهيارًا حادًا، إذ فقدت تريليونات الدولارات من قيمتها بعد أن أثارت التعريفات الجمركية التبادلية المخاوف من اندلاع حرب تجارية عالمية؛ فقد انخفض مؤشر S&P 500 بمقدار 2.4 تريليون دولار في يوم واحد، مسجلاً أسوأ هبوط له منذ عام 2020، بينما تراجعت أسعار النفط وتذبذب الدولار الأميركي.
وفقًا للمنطق التقليدي، كان من المتوقع أن يزدهر الذهب في مثل هذه الفوضى كونه حصنًا ضد التضخم وعدم اليقين والصراعات الجيوسياسية، لكن على العكس، انخفض سعر الذهب الفوري بأكثر من 3% في 4 أبريل، مما أدى إلى محو المكاسب السابقة، فقد هبط دون 3,050 دولار للأونصة بعد أن سجل مستوى قياسيًا بلغ 3,167.57 دولار في وقت سابق من الأسبوع. فما الذي يفسر هذا التراجع المفاجئ؟.
لطالما كانت جاذبية الذهب كملاذ آمن مرتبطة بدوره التاريخي كتحوط ضد الاضطرابات الاقتصادية، لكن التعريفات الجمركية التي فرضها ترامب في 2 أبريل، وبلغت 25% على المركبات وقطع الغيار المستوردة، تلتها إجراءات تبادلية أوسع تستهدف الشركاء التجاريين الرئيسين، كانت عادةً ما تؤدي إلى ارتفاع أسعار الذهب. ومع تهديدات الاتحاد الأوروبي وكندا والصين بفرض رسوم انتقامية، زادت المخاوف من الركود، فقد رفع مصرف غولدمان ساكس احتمالية حدوث ركود في الولايات المتحدة إلى 35% من 20%.
ورغم أن البنوك المركزية تواصل شراء الذهب بوتيرة لم تشهدها منذ السبعينيات لتنويع احتياطياتها في ظل عالم يهيمن عليه الدولار، فإن الذهب تراجع، فقد أشار بيتر غرانت، كبير استراتيجيي المعادن في «زانر ميتالز»، إلى أن السبب المباشر لتراجع الذهب كان عمليات جني الأرباح وضغوط نداءات الهامش بعد عمليات البيع التي شهدتها الأسواق. وبحسب غرانت، فإن هذه الظاهرة، رغم أنها مؤقتة، تكشف عن ضعف الذهب أمام الديناميكيات المالية قصيرة الأجل، حتى في ظل قوة أساسياته على المدى الطويل.
يشير سلوك الدولار الأميركي إلى عامل آخر. عادةً ما يؤدي ارتفاع الدولار إلى انخفاض أسعار الذهب لأنه يجعل المعدن الأصفر أكثر تكلفة للمشترين الأجانب. في البداية، أدت التعريفات إلى إضعاف الدولار بنسبة 0.4% في 2 أبريل، في حين استوعبت الأسواق الآثار التضخمية المحتملة. ومع ذلك، بحلول 4 أبريل، ارتد الدولار بنسبة 0.7% بفضل بيانات قوية عن الوظائف الأميركية، بالإضافة إلى تدفق الأموال نحو النقد في ظل انهيار الأسهم. هذا الصعود في الدولار ضغط على أسعار الذهب، وهو ما عكس التدفقات التي دفعت الأسعار إلى مستويات قياسية لفترة قصيرة.
من ناحية أخرى، قد يكون للتغيرات الهيكلية في سوق الذهب دور في هذا التراجع. فمنذ أواخر عام 2024، أدى القلق من التعريفات إلى زيادة واردات الذهب المادي إلى الولايات المتحدة، مما رفع مخزونات كومكس بنسبة 73.5% إلى 30.4 مليون أونصة، وهو أعلى مستوى منذ يوليو 2022. وقد استفادت بنوك السبائك من هذا الوضع عبر نقل الذهب من لندن وهونغ كونغ إلى نيويورك، مستفيدة من العلاوة المستمرة في العقود الآجلة الأميركية مقارنة بالأسعار الفورية. هذا العرض الزائد من الذهب في السوق قد يكون خفف من الضغط الصعودي على الأسعار.
على الرغم من التراجع الذي شهده الذهب، لا يزال مسار المعدن الصعودي قائمًا. فقد ارتفع الذهب بأكثر من 500 دولار في عام 2025، مما يعكس جاذبيته المستمرة وسط المخاطر الاقتصادية المرتبطة بسياسات ترامب. يتوقع محللون مثل مايكل ويدمر من بنك أوف أمريكا أن تصل أسعار الذهب إلى 3,500 دولار للأونصة خلال 18 شهرًا، مدفوعة بعدم اليقين المستمر وطلب البنوك المركزية. كما يرى بنك HSBC أن التعريفات تمثل محفزًا صعوديًا على المدى المتوسط.
وفي الوقت الحالي، يبدو أن تراجع الذهب يعكس حالة من الهبوط التكتيكي في سياق سوق متقلب، أكثر من كونه رفضًا لمكانته كملاذ آمن. تصريحات رئيس الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول، في 4 أبريل، بأن التعريفات الجمركية «أكبر من المتوقع» وقد تثير التضخم، تدعم الفكرة بأن الذهب قد ينتعش في المستقبل.
بينما لا يزال السوق في حالة تقلب، يبقى الذهب أحد المعادن التي يُتوقع لها الاستمرار في لعب دور أساسي في عالم مليء بالتحديات الاقتصادية بسبب حروب ترامب التجارية.