شهد الدولار الأميركي هذا العام تراجعا كبيرا، ما أثار تساؤلات حول استمراره كعملة احتياطية عالمية. بعد عقود من الهيمنة، يبدو أن هناك تحديات قد تُغير المشهد المالي العالمي، وهو ما قد يترتب عليه تداعيات اقتصادية على الولايات المتحدة نفسها.
الأسواق المالية تعاني من اضطرابات غير مسبوقة، حيث دخلت الأسهم الأميركية في مرحلة «التصحيح»، بينما سجل الدولار انخفاضا أثار قلق المستثمرين. في الظروف العادية، عندما تسود حالة عدم اليقين، يميل المستثمرون إلى شراء الدولار الأميركي وسندات الخزانة الأميركية كملاذ آمن. لكن هذه المرة، لم يحدث ذلك بنفس الوتيرة المعتادة، ما يشير إلى وجود تحول في ثقة الأسواق بالنظام المالي الأميركي.
من بين الأسباب المحتملة لهذا التغيير، حالة عدم الاستقرار الناتجة عن السياسات التجارية للإدارة الأميركية، وتحديدًا تلك المتعلقة بالرسوم الجمركية المتقلبة، والتي خلقت بيئة غير مواتية لنمو الأعمال التجارية. كما أن هناك عاملًا آخر يتمثل في الترقب لما يمكن أن تسفر عنه سياسات الإدارة الأمريكية تجاه الدولار نفسه.
تاريخيا، لطالما كان الدولار القوي ميزة للولايات المتحدة، حيث يعزز القوة الشرائية، ويجعل استيراد السلع والخدمات أرخص. لكن بعض الأصوات المقربة من الرئيس الأميركي ترى أن هذه الميزة قد تكون بمثابة عبء اقتصادي، حيث تؤدي إلى إضعاف قطاع التصنيع الأميركي. فمع ارتفاع قيمة الدولار، تصبح الصادرات الأميركية أكثر تكلفة وأقل قدرة على المنافسة، مما يدفع بعض القطاعات الصناعية إلى نقل عملياتها إلى الخارج حيث التكلفة أقل.
ويشير بعض مستشاري الإدارة إلى أن هذا الوضع ساهم في فقدان ملايين الوظائف، بل ويربط البعض بين هذه الديناميكيات الاقتصادية والأزمات الاجتماعية مثل أزمة المواد الأفيونية التي اجتاحت الولايات المتحدة خلال العقد الماضي.
بعض الخطط المقترحة من قبل مستشاري الإدارة تستند إلى نظرية تُعرف بـ ” الأسهم الثلاثة”، والمقتبسة من النموذج الاقتصادي الياباني. تقوم هذه النظرية على ثلاثة محاور رئيسية:
بحسب هذه الرؤية، فإن النمو الاقتصادي السريع الناتج عن تخفيض الضرائب وتحرير الأسواق سيمكن الولايات المتحدة من تجاوز تبعات العجز المالي. كما أن استخدام التعريفات الجمركية كأداة ضغط على الدول الأخرى قد يُجبرها على فتح أسواقها بشكل أكبر أمام المنتجات الأميركية.
لكن يبقى السؤال: هذا التوجه سيسهم في تقوية الدولار نتيجة لزيادة جاذبية الاقتصاد الأميركي، فكيف يمكن للحكومة الأميركية أن تضعف الدولار في الوقت ذاته؟ بعض الأفكار المطروحة تتضمن إعادة هيكلة الدين الأميركي، وفرض ضرائب على تدفقات رأس المال للحد من تدفقات الأموال الأجنبية، وهي سياسات ستواجه بلا شك انتقادات كبيرة داخل الولايات المتحدة وخارجها.
على الرغم من صعوبة تصور تحول جذري في النظام المالي العالمي في الوقت الحالي، إلا أن مجرد وجود مثل هذه المناقشات قد يضعف الثقة في الدولار. فالمستثمرون الدوليون والمحللون الماليون بدأوا بالفعل في التساؤل عما إذا كانت الولايات المتحدة لا تزال تُعتبر “وجهة آمنة” للاستثمارات طويلة الأجل.
قد لا يكون التخلي عن الدولار كعملة احتياطية خيارا قريب المنال، لكنه ليس مستحيلا. فحينما فرضت الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية صارمة على روسيا بعد غزو أوكرانيا، استخدمت الدولار كأداة ضغط من خلال تقييد وصول روسيا إلى النظام المالي العالمي. هذا الإجراء عزز توجه بعض الدول إلى البحث عن بدائل تقلل من اعتمادها على الدولار، سواء عبر اتفاقيات ثنائية للتبادل بالعملات المحلية أو تطوير أنظمة دفع دولية جديدة.
إذا قررت الإدارة الأميركية المضي قدما في إستراتيجية إضعاف الدولار، فقد تواجه ردود فعل سلبية من الأسواق العالمية. فعدم الاستقرار في قيمة الدولار قد يدفع بعض الدول إلى تسريع جهودها لإيجاد بدائل، وهو ما قد يؤدي في النهاية إلى تآكل جزء من الهيمنة المالية الأميركية.
في المقابل، قد تستفيد بعض القطاعات الاقتصادية في الولايات المتحدة من انخفاض الدولار، لا سيما في مجال التصدير والتصنيع. لكن هذا قد يأتي على حساب ارتفاع تكاليف الاستيراد وزيادة الضغوط التضخمية، مما سيؤثر سلبًا على القدرة الشرائية للأميركيين.
بينما لا تزال هذه الخطط غير مؤكدة، فإن مجرد طرحها للنقاش يعكس تحولات كبيرة في الفكر الاقتصادي داخل الإدارة الأميركية.
يبقى السؤال المطروح: هل ستتمكن الولايات المتحدة من تنفيذ مثل هذه السياسات دون أن تقوض مكانتها في الاقتصاد العالمي؟ أم أن الأسواق العالمية أخذت حذرها وبدأت في البحث عن بدائل قد تغير وجه النظام المالي الدولي؟