أبوظبي تستهدف الحياد الكربوني عبر «استدامة» لتقييم المباني الخضراء
تؤدي صناعة البناء دوراً حيوياً في مواجهة تغير المناخ، إذ تُسهم بنحو 40% من انبعاثات الكربون العالمية، مما يبرز بشكل واضح الحاجة الملحة لإيجاد حلول مستدامة.
على الصعيد العالمي، يعترف القطاع بشكل متزايد بمسؤوليته في الابتكار والتكيف وتقليص بصمته البيئية. ومع ذلك، لا يوجد مكان يظهر فيه هذا التوجه بشكل أكثر وضوحاً من الشرق الأوسط، حيث تقدم المشاريع العملاقة والضخمة نماذج جريئة للبناء المستدام والالتزام القوي بالتنمية المحايدة للكربون.
ووفقاً لتقرير نشره موقع «كونستركشن ويك أونلاين» (Construction Week Online)، يعد التزام المنطقة بهذه المبادئ مثالاً بارزاً من خلال مشاريع مثل «مدينة مصدر» في أبوظبي، التي تبقى نموذجاً رائداً للتخطيط الحضري الموفّر للطاقة. فمن خلال أهداف طموحة ونتائج قابلة للقياس، مثل تقليص مؤشر استخدام الطاقة وتقليل الكربون المتضمن، أثبتت «مدينة مصدر» أن التصميم المستدام يمكن أن يحفز تقدماً صناعياً، ويُعزز الأطر التنظيمية.
ولم تُسهم هذه المبادرات الرائدة في إعادة تشكيل مشهد البناء فحسب، بل أثرت أيضاً في السياسات، ووضعت معياراً يُحتذى به من قبل الآخرين. ويظهر هذا الالتزام بالاستدامة من خلال الموجة الجديدة من المشاريع العملاقة في المنطقة، التي تحمل آمالاً كبيرة لمستقبل مستدام للبناء محلياً وعالمياً.
بينما يقود الابتكار عادةً إلى تطوير أطر تنظيمية جديدة في قطاعات مثل التكنولوجيا، فإن صناعة البناء في الشرق الأوسط تشهد أيضاً تحولات مماثلة. وبحسب التقرير، تدفع المشاريع الكبرى حدود الاستدامة، مما يستدعي تطوير لوائح تنظيمية جديدة.
كمثال على ذلك، بعد عامين من إطلاق مدينة مصدر، قدمت أبوظبي نظام «استدامة»، وهو نظام تقييم المباني الخضراء الذي يعكس التزام المدينة بالاستدامة. كما تدفع مشروعات مثل «نيوم» في السعودية، التي تسعى إلى تحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2030، لتطوير تنظيمات تركز على الطاقة المتجددة، وإنترنت الأشياء، واستخدام الذكاء الاصطناعي لتحسين الموارد، ووسائل النقل المستدامة، مما يضع الأسس للوائح مستقبلية ستفيد المنطقة بأسرها.
نظراً لمتطلبات الطاقة الضخمة للمشاريع العملاقة، أكد التقرير أن الشرق الأوسط يتجه نحو حلول الطاقة المتجددة لتحقيق أهداف الحياد الكربوني. وتعرض مشاريع مثل «نيوم» و«مجمع محمد بن راشد آل مكتوم للطاقة الشمسية» إمكانيات المنطقة في مجال إنتاج الطاقة النظيفة، مستفيدة من الشمس الوفيرة لتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري.
بالإضافة إلى الطاقة المتجددة، تسهم مواد البناء المتطورة في تقليل بصمات الكربون، إذ يستخدم مشروع «نيوم» و«البحر الأحمر» في السعودية الخرسانة منخفضة الكربون، التي تحتوي على منتجات صناعية مثل الرماد المتطاير لتقليل الانبعاثات.
ويدمج «متحف المستقبل» في دبي الزجاج الذكي الذي يضبط شفافيته لتحسين كفاءة الطاقة، مما يوضح كيف يمكن دمج التكنولوجيا بسلاسة في التصميم المستدام. حتى الممارسات التقليدية يُعَاد النظر فيها مع مراعاة الاستدامة، كمشروع «بوابة الدرعية» في السعودية، الذي يدمج عناصر التصميم السلبي مثل الأبراج الهوائية والفناءات المظللة لتعزيز كفاءة الطاقة مع الحفاظ على التراث المعماري الإقليمي.
يعد نقص الخبراء المتخصصين في الاستدامة أحد التحديات الرئيسة أمام صناعة البناء العالمية. ومع ذلك، أشار التقرير إلى أن المشاريع العملاقة في الشرق الأوسط تجذب أفضل المواهب من جميع أنحاء العالم، مما يضمن أن هذه المشاريع تحقق أهداف الاستدامة الطموحة، بينما تعزز ثقافة التعاون والابتكار.
في الوقت ذاته، فإن تدفق الخبرات الدولية يعود بالفائدة على القوى العاملة المحلية، إذ يعمل الخبراء الدوليون في المشاريع الكبيرة جنباً إلى جنب مع المحترفين المحليين، مما يعزز المهارات والمعرفة في مجال الاستدامة من خلال التعاون المشترك.
علاوة على ذلك، تعمل مشروعات المنطقة الكبرى على إعادة تعريف استراتيجيات اكتساب المواهب، إذ تركز الشركات العالمية الرائدة في الهندسة المعمارية والهندسة على منطقة الشرق الأوسط بشكل متزايد، مما يضمن استفادة هذه المشاريع من أفضل العقول في الصناعة.
يعد مشروع «ذا لاين» في «نيوم» مبادرة مبتكرة في التخطيط الحضري، إذ يعيد التفكير في تصميم المدن التقليدي من خلال التركيز على سهولة التنقل سيراً على الأقدام، وسكك الحديد السريعة، والمركبات الكهربائية ذاتية القيادة. ويهدف هذا التصميم إلى القضاء على الحاجة إلى السيارات، وتقليل الانبعاثات، وإلهام المخططين الحضريين في جميع أنحاء العالم لتبني نماذج أكثر كفاءة.
كذلك، يكتسب مفهوم «المدينة ذات الـ 15 دقيقة»، إذ يمكن للسكان الوصول إلى الخدمات الأساسية في غضون مسافة قصيرة سيراً أو بالدراجة، شعبية متزايدة في المنطقة. وتهدف عجمان إلى تحقيق هذا النموذج بحلول عام 2030، بينما يبدأ مشروع «إكسبو سيتي» في دبي تسليم أول منازلها في عام 2026 كجزء من هذه المبادرة كتصميم حضري مشابه.
وتسلط هذه المشاريع الضوء على أهمية تضمين الاستدامة في التصاميم الأولية بدلاً من تعديل المشاريع القائمة، مما يضمن دمجاً سلساً وفوائد طويلة الأجل.
وأوضح التقرير أن المشاريع العملاقة في الشرق الأوسط لا تعيد تشكيل صناعة البناء في المنطقة فحسب، بل تؤثر أيضاً في الاتجاهات العالمية. من خلال الابتكار، والتقدم التنظيمي، والالتزام الثابت بالاستدامة، تدفع هذه المشاريع التقدم في مجالات الطاقة، ومواد البناء، والكفاءات، والتخطيط العمراني. ومع استمرار المنطقة في تجاوز التحديات، تؤكد مكانتها كقائد عالمي في البناء المستدام، وتحدد مساراً لمستقبل أكثر خضرة ومرونة.