وصل العالم خلال العقد الأخير إلى أعتاب ثورة مالية من شأنها أن تجعل الخدمات المصرفية أكثر شمولاً وأماناً. وفي قلب هذه الثورة، تقف تقنية البلوكتشين التي اشتهرت بدايةً بالعملات الرقمية، لتتجاوز اليوم تلك الحدود، وتُعيد تشكيل النظام المالي العالمي ككل. لكن، رغم أن هذه التقنية تتيح معاملات سريعة وشفافة، فإنها تواجه تحديات مثل التكاليف التنظيمية والتكنولوجيا المعقدة.
تشير أحدث بيانات البنك الدولي إلى أن 1.4 مليار شخص حول العالم لا يزالون دون حسابات بنكية، معظمهم في الدول النامية. تقنية البلوكتشين تُقدم حلاً مبتكراً، وذلك عبر تمكين المعاملات المالية دون الحاجة إلى وسطاء. ففي دول مثل كينيا والهند، تُستخدم منصات بلوكتشين لتحويل الأموال بتكلفة أقل بنسبة 70% مقارنة بالبنوك التقليدية.
هذا التحول يُمكّن صغار المزارعين والتجار من الوصول إلى التمويل والأسواق العالمية. لكن الفوائد لا تقتصر على الأفراد فحسب، بل إن الشركات تستفيد أيضاً من سجلات شفافة، تحد من عمليات الاحتيال المالي، وتُسرّع التسويات التجارية.
بشكل عام، تعتبر العقود الذكية إحدى أبرز تطبيقات تقنية البلوكتشين، وهي تتيح تنفيذ الاتفاقيات تلقائياً دون تدخل وسيط، الأمر الذي يقلل من التكاليف ويُعزز الكفاءة. لذلك، نجد بعض الحكومات قد بدأت فعلياً باستغلال هذه التقنية لتحسين خدماتها، ومن بينها على سبيل المثال إدارة سجلات الهوية والرعاية الصحية كما في بعض الدول الأوروبية، بينما تطور الإمارات منصات حكومية رقمية تعتمد على العقود الذكية لتسريع المعاملات العقارية والتراخيص التجارية. كل هذه الاستخدامات وغيرها تُبرهن على قدرة التقنية في إحداث نقلة نوعية في الأداء الحكومي، وتقليص البيروقراطية، وزيادة الشفافية في تقديم الخدمات العامة.
تُعتبر البلوكتشين إحدى أكثر التقنيات أماناً بفضل تصميمها اللامركزي. وفي هذا السياق، أشار تقرير صادر عن شركة «ديلويت» في عام 2021 إلى أن 88% من المؤسسات المالية تخطط لاستخدام البلوكتشين لتعزيز الأمن السيبراني بحلول 2027. وعلى سبيل المثال، تُستخدم التقنية لتأمين الهويات الرقمية، ما يُقلل من سرقة البيانات.
لكن التحديات تظل قائمة، إذ إن تقنية البلوكتشين تتطلب استثمارات كبيرة في البنية التحتية، مثل الخوادم عالية الأداء، وهو أمر مكلف للدول ذات الموارد المحدودة. كما أن اللوائح التنظيمية المتباينة بين الدول، قد تُعيق التوسع العالمي للتقنية.
قد تُوسع البلوكتشين الفجوة الرقمية إذا لم تُدار بحكمة. فالدول المتقدمة في هذا المجال، مثل الإمارات واليابان، تتبنى التقنية بسرعة، ما يُعزز اقتصاداهما. لكن في المقابل، تواجه الدول منخفضة الدخل صعوبات في توفير التعليم التقني والاتصال بالإنترنت. هذا التباين قد يحول دون استفادة المناطق الفقيرة من الخدمات المالية الحديثة.
كذلك، قد يُواجه الأفراد غير المتمكنين رقمياً تحديات في استخدام منصات البلوكتشين، ما يتطلب برامج توعية لتعزيز المهارات الرقمية.
لتحقيق إمكانات البلوكتشين، يجب على الحكومات والشركات التعاون في وضع سياسات داعمة. في هذا المجال، يُوصي البنك الدولي بإنشاء صناديق تمويل لنشر التقنية في المناطق الريفية، مع التركيز على تدريب المجتمعات المحلية. كما أن هناك اقتراحات بتوحيد اللوائح الدولية لتسهيل المعاملات عبر الحدود.
يمكن القول أخيراً إن المجتمع التقني والمالي عموماً ينظر إلى مستقبل تقنية البلوكتشين على أنها ليست مجرد تقنية، بل أمل في عالم مالي أكثر عدالة. إلا أن النجاح المأمول يعتمد أولاً وأخيراً على قدرة الدول والحكومات على جعلها متاحة للجميع.