بدلاً من شراء كيلو الطماطم في العراق ما بين 500 و1000 دينار، يمكن الحصول عليها بنحو 1 أو 10 أو 100 دينار فقط، حال طبّق العراق خطوة يدرسها حالياً بحذف أصفار من العملة المحلية التي تراجعت منذ الثمانينيات تحت ضغوط الحروب والأزمات، في مسعى من البنك المركزي للبلاد لاستقرار نقدي واقتصادي والحد من التضخم.
تنفيذ حذف الأصفار، الذي لم يحدد محافظ البنك المركزي العراقي، علي محسن العلاق، خلال تصريحات حديثة موعده بعد، ولا يزال محل جدل إعلامي بالبلاد «تحرك بدءاً من 2007، ويجب أن يكون دخوله حيز التنفيذ محسوباً جيداً»، بحسب خبراء تحدثوا لـ«إرم بزنس» باعتباره اختباراً لمدى نجاح مساعي حكومة محمد شياع السوداني في تنفيذ إصلاحات نقدية منذ وصوله للسلطة في أكتوبر 2022، خاصة والدولار الواحد يسجل حالياً 1320 ديناراً بالسوق الرسمي و1500 بنظيره الموازي.
وكشف العلاق، في تصريحات صحفية سبتمبر الجاري، أن «عملية حذف الأصفار من العملة تحظى بمراجعة ودراسة مستمرة في البنك المركزي العراقي»، بعد أيام من تصريحات مماثلة تفيد بأن «العراق يمتلك من الاحتياطيات للعملات الأجنبية، ما يمكنه من الدفاع عن سعر الصرف»، و«قطع شوطاً كبيراً في عملية إصلاح القطاع المصرفي وتحويله رقمياً».
وتلا حديث العلاق، نقاشات إعلامية، أحدثها الخميس بتلفزيون العراق 24 المحلي، ترى أهمية تطبيق الحذف لتقليل التضخم النقدي بالبلاد، والذي سجل معدله السنوي لشهر أبريل 3.0%، بينما وصل في شهر مايو إلى 3.4%، وفق بيان دائرة الإحصاء بالبنك المركزي أواخر يوليو الماضي، مع تقديرات لنائب رئيس البنك عمار خلف، تعود لفبراير الماضي، تشير إلى أن حجم الاحتياطيات الأجنبية في 2023، نحو 112.8 مليار دولار، وحجم الودائع 99.8 مليار دولار.
ويسعى العراق، ثاني أكبر منتج للنفط في منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك)، إلى «انضباط مالي أكثر صرامة عام 2025»، بسبب انخفاض أسعار النفط، المصدر الرئيس لإيرادات البلاد بنحو 90%، وفقاً لتصريحات مظهر صالح المستشار المالي لرئيس الوزراء العراقي في 10 سبتمبر الجاري، لافتاً إلى أن «موازنة 2024 ارتفعت إلى 211 تريليون دينار (161 مليار دولار) من 199 تريليون دينار (153 مليار دولار) عام 2023 مع عجز متوقع قدره 64 تريليون دينار (48 مليار دولار).
وكانت حكومة العراق، أعلنت في أبريل الماضي «تقليل الدين العام الخارجي بنسبة تتجاوز الـ 50%، لينخفض الدين من 19.729 مليار دولار أواخر عام 2022، إلى 15.976 مليار دولار في عام 2023، وصولاً إلى ما يقارب 8.9 مليار دولار في العام الحالي»، بينما ارتفع الدين الداخلي من 38.3 تريليون دينار (29.4 مليار دولار) في عام 2019 إلى 73.2 تريليون دينار (56.3 مليار دولار) حالياً.
رحلة التراجع والوضع الحالي لفئات العملة العراقية، وفق حديث الخبير المالي والمصرفي العراقي، صفوان قصي لـ«إرم بزنس»، تتمثل في عملات من فئات 250 و500 و1000 و5 آلاف و10 آلاف و25 ألفا، و50 ألف دينار، صدرت تباعاً من البنك المركزي العراقي السنوات الأخيرة.
ولشراء المواطن العراقي، سلعة كالطماطم على سبيل المثال، من مكان قريب من أرض زراعية، سيكون الكيلو منها بـ500 دينار (أقل من نصف دولار)، ولو في وسط بغداد أو مدينة مكتظة بالسكان، سيشتريها بألف دينار (قرب الدولار)، وفق الدكتور صفوان قصي، لافتاً إلى أن متوسط دخل المواطن الشهري بالنسبة للأفراد قد يصل إلى 500 دولار بما يسجل 650 ألف دينار شهرياً.
ووفق الخبير المصرفي العراقي، «شهدت العملة المحلية تراجعات كبيرة، بعدما كان الدولار عام 1980 يساوي 1 دينار، وهذا يرجع إلى زيادة الإنفاق الحربي في الثمانينيات مع الحرب العراقية الإيرانية، وانتقال العراق من فائض 36 مليار دولار إلى عجز 200 مليار دولار بعد انتهاء تلك الحرب».
وعزز ذلك التراجع الكبير للعملة، وفق صفوان قصي، «حرب الكويت عام 1990 وخسائر العراق أكثر من 50 مليار دولار، وديون مرتبطة مع حصار اقتصادي وسحب النظام الدولي الاعتراف بالدينار العراقي، مع إصدار النظام السابق (صدام حسين) أوراقاً نقدية محلية بعيدة عن عملية التحويل المالي الدولي في ظل عدم قدرته على الاقتراض، مما أدى إلى انخفاض قيمة الدينار إلى 3000 للدولار».
قبل أن يأتي عام 2004، ويصدر العراق عملة جديدة، ويبدأ البنك المركزي خططاً لاحتواء ذلك، ووصل الدولار في 2020 ما يقارب 200 دينار، قبل أن تقود ظروف جائحة كورونا لتخفيض جديد بالعملة وسط حروب بالمنطقة ومضاربات، جعلت هناك سوقين أحدهما رسمي يسجل 1320 ديناراً للدولار و1500 دينار لنظيره الموازي»، وفق الخبير المصرفي العراقي.
لكن «هل يقود حذف الأصفار لشراء المواطن كيلو الطماطم بدينار واحد أو عشرة أو مئة بدلاً من 500 وألف؟»، أجاب قصي: «هذا هو التحدي الكبير المنتظر، الذي يختبر جدية الإصلاحات النقدية، فهل إذا تم حذف الأصفار ستنخفض الأسعار؟»، متوقعاً أن «تستجيب الدوائر الحكومية فوراً للتخفيض مع عدم تفريط القطاع الخاص في أرباحه، على أن يندمج تدريجياً في المرحلة الجديدة وينسجم».
وتعرّف عملية حذف أصفار العملة المحلية وفق حديث الخبير الاقتصادي والأكاديمي بجامعة البصرة، نبيل المرسومي، في تصريحات لـ«إرم بزنس»، بأنها «استبدال عملة جديدة بالعملة القديمة بهدف تبسيط العملية الحسابية بين المستهلكين، وغالباً ما تلجأ إليها الدول التي تعاني من تضخم كبير، وأصبحت غير قادرة على التعامل بعملات ورقية ذات قيمة ضعيفة جداً».
ووفق المرسومي «سبق أن طبّقت 54 دولة في أوقات مختلفة حذف مجموعة من الأصفار من عملاتها المحلية، نظراً لبعض الإيجابيات المترتبة على مثل هذا الإجراء».
وتتمثل تلك الإيجابيات، وفق الخبير الاقتصادي العراقي نبيل المرسومي، في «إعادة تقييم العملة الوطنية وتبسيط التعاملات المالية وترشيق وحدات العملة كشرط ضروري لخفض الأرقام المحاسبية وتسهيل التعاطي الحسابي وكلفة إدارة الأرقام الكبيرة الجديدة وانعدام الأرقام الصغيرة».
وينبه إلى أن «موضوع حذف 3 أصفار من العملة العراقية يحظى باهتمام ودراسة من البنك المركزي منذ عام 2007، إلا أن البنك لم يتخذ بعد مثل هذا الإجراء، بسبب عدم توافر شرطين مهمين يتمثل الأول بعدم استقرار سعر صرف الدولار أمام الدينار العراقي، والثاني عدم الاستقرار السياسي، فضلا عن المساوئ والمخاطر المترتبة عليه».
وتتمثل المخاطر بحسب الخبير الاقتصادي العراقي في أن «عملية حذف الأصفار ليست حلا سحريا لمشكلة التضخم، وإنما هو إجراء شكلي الغاية منه إعطاء زخم للاقتصاد العراقي، ويعد تغييرا وهميا لقيمة العملة، ولا يغير من قدرتها الشرائية»، فضلاً عن حدوث «تأثير في سلوك المستهلكين والمنتجين والمتغيرات الاقتصادية والعلاقات الاقتصادية بين العراق والدول الأخرى».
ويمكن ضمن تلك المخاطر أن «يصاب الناس بالفزع، ويتخلون عن مدخراتهم الدولارية واستبدالها بالدينار العراقي ما يؤدي إلى نمو كبير ومفاجئ في الكتلة النقدية ما يقوض الاستقرار النقدي، فضلا عن الكلف الكبيرة المترتبة على طبع العملة العراقية الجديدة»، وفق المرسومي.
وقد يبرز ذلك الحذف أيضاً «الفساد في عملية التخلص من العملة القديمة أو دخول عملات مزيفة ومحاولة استبدالها بالعملة الجديدة إضافة لحدوث عمليات غسيل للأموال، فضلاً عن أنه لن يؤثر في القدرة التنافسية للسلع العراقية أمام السلع الأجنبية، لأن أغلبية التعاملات تتم بالدولار»، يضيف المرسومي.
كما «سيخلف حذف الأصفار مشكلات اجتماعية في هذه المرحلة لعدم القدرة على إقناع الجمهور بقبول تناقص حجم الكتلة النقدية مع الإقرار بأنَّ القيمة الحقيقية للنقد لا تتأثر»، وفق الخبير الاقتصادي العراقي، موضحاً أن «الأمر يتعلق بالذهن وحفظ الذاكرة للمبالغ بحجمها الكبير، فضلاً عن صعوبة تسوية التعاقدات والاتفاقات التجارية والشخصية».
وعن المسار المحتمل لعملية حذف الأصفار من قيمة الدينار العراقي، يرى الخبير المالي العراقي، أن التطبيق «يحتاج معرفة القيمة العادلة للدينار»، لافتاً إلى أنه «حالياً هناك مجموعة من الأهداف التي تسعى حكومة السوداني لإدخالها كإصلاحات اقتصادية نقدية بتنويع مصادر الحصول على الدينار العراقي وتعزيز قيمته من خلال تصفير الديون الخارجية والداخلية».
ويرى أن «عملية تبني منهج الدعم المباشر للدينار العراقي من خلال حذف الأصفار يحتاج أيضاً إلى استراتيجية لامتصاص قدرة ردة الفعل خاصة من القطاع الخاص تجاه سحب الدينار العراقي واستبداله بعملة أخرى».
كما يحتاج هذا الحذف إلى «طمأنة حملة الدينار العراقي بأن قيمة الدينار ستحافظ على المقياس نفسه، وأن الأسعار يمكن أن تنخفض في السلع والخدمات بنفس نسبة تخفيض عدد الأصفار».
وسط كل المخاطر والإيجابيات، يعتقد أن «حذف الأصفار لا يزال محط اهتمام البنك المركزي العراقي من أجل تعزيز قدرة السيطرة على الكتلة النقدية»، لافتاً إلى أن «البنك المركزي يحاول حالياً تعزيز موضوع الشمول المالي بالانتقال إلى تتبع حركة الدينار العراقي إلكترونياً لكي يتم سحب هذه الكتلة النقدية وإيداعها داخل النظام المصرفي، ومن ثم يتم التفكير بشكل جدي في حذف صفر أو صفرين أو ثلاثة أصفار من الدينار العراقي».
ويتمسك الخبير المالي العراقي قبل تنفيذ هذا الحذف بوجود استقرار مالي واقتصادي بالبلاد، مؤكداً أن «التوقيت المناسب لمثل هذا الإجراء يحتاج إلى المزيد من الدراسة والتتبع، وأن يكون لدى العراق سلة من العملات العالمية تكون غطاء للدينار العراقي الجديد لكي لا تخضع قيمة الدينار لمعدلات التضخم أو تغيرات قيمة العملة الدولية».