مع تسارع التحوّل نحو الاقتصاد الرقمي والطاقة النظيفة، برزت المعادن النادرة كسلعة استراتيجية، وأصبحت محوراً لمنافسة محتدمة بين القوى الكبرى.
هذه العناصر، وعددها 17، تدخل في تصنيع شرائح الإلكترونيات، البطاريات، المحركات الكهربائية، وأجهزة الرصد الدفاعي؛ ما جعلها ضرورة حتمية للنمو التكنولوجي والصناعي الحديث، لا سيما في الصناعات الخضراء والدفاعية المتقدمة، ووفقاً لـ(European Commission)، فإن الطلب العالمي على المعادن النادرة سيزداد أكثر من 500% بحلول العام 2030.
كانت بكين أول من أدرك أهمية هذه المعادن منذ مطلع الألفية، فاستثمرت في التنقيب والإنتاج والتكرير، حتى أصبحت تُنتج أكثر من 70% من المعادن النادرة عالمياً، وتُكرر نحو 90% منها، بحسب (U.S. Geological Survey).
ولم تكتفِ بذلك، بل توسعت في شراء مناجم حول العالم، من ميانمار إلى إفريقيا، وفرضت قيوداً على تصدير بعض المواد والتقنيات المرتبطة بها؛ ما منحها قدرة على التحكم في سلاسل التوريد العالمية، وفقاً لـ(Financial Times).
تستورد الولايات المتحدة أكثر من 70% من المعادن النادرة من الصين، وهو ما تعتبره وزارة الأمن القومي «ثغرة تهدد الأمن القومي الأميركي».
أمام هذا النفوذ الصيني، بدأت واشنطن إعادة تقييم استراتيجيتها، فأطلقت وزارة الدفاع الأميركية خططاً لبناء سلاسل توريد بديلة، وموّلت مشاريع تعدين في أستراليا وكندا، واستثمرت في شراكات مع الهند وفيتنام.
لكن النتائج ما زالت محدودة بسبب تعقيدات التكرير وارتفاع التكاليف، وفقاً لـ(The Wall Street Journal).
تكمن أهمية المعادن النادرة في كونها تدخل بتصنيع جميع الأجهزة الذكية، المحركات المغناطيسية، الألواح الشمسية، الرادارات، والطائرات المقاتلة مثل F-35، حيث تُستخدم مئات الكيلوغرامات منها في أنظمة التوجيه والرصد. ووفقاً لـ (Brookings Institution)، فإن هذه المعادن ليست فقط أساسية للنمو الاقتصادي، بل أيضاً «عماد الأمن القومي في الحروب الحديثة».
تتصدر الصين القائمة بأكبر احتياطي «44 مليون طن»، تليها البرازيل وروسيا والهند وأستراليا، وفقاً لـ (International Energy Agency).
أما من حيث الإنتاج الفعلي، فإن أستراليا تعد أكبر منتج خارج الصين، لكنها ما تزال ترسل معظم إنتاجها للتكرير في المصانع الصينية، وفقاً لـ«بلومبيرغ».
أما الولايات المتحدة، فرغم امتلاكها احتياطيات كبيرة، إلا أنها ما تزال تعتمد على الصين في التكرير بنسبة تزيد عن 85%، بحسب U.S. Department of Energy.
مع تصاعد التوترات بين بكين وواشنطن، تحوّلت المعادن النادرة إلى أداة ضغط في الحروب التجارية.
فرضت الصين قيوداً على تصدير الجاليوم والجرمانيوم، وأشارت إلى نيتها تقييد عناصر نادرة تُستخدم في صناعة الرقائق الدفاعية؛ ما أدى إلى ارتفاع أسعارها عالمياً، وفقاً لـ(The Economist).
ويُنظر إلى هذه الإجراءات على أنها «ضربات غير تقليدية» في صراع النفوذ التكنولوجي والاقتصادي.
في سياق السعي الأميركي لتأمين بدائل عن الصين، برزت أوكرانيا كخزان ضخم للمعادن النادرة، إذ تمتلك احتياطيات من التيتانيوم، الليثيوم، الغرافيت، والبريليوم، تقدَّر قيمتها بتريليونات الدولارات.
وبحسب تقارير (Politico وThe Washington Post) فإن الرئيس الأميركي دونالد ترامب طلب من كييف خلال مفاوضات خاصة منح واشنطن حصة تصل إلى 50% من حقوق التعدين مقابل دعم مالي وعسكري.
واعتبر ترامب أن أوكرانيا «فرصة ذهبية لفك قبضة الصين، كما أشار في تصريحات ضمن حملته الانتخابية الأخيرة.
لم تعد المعادن النادرة مجرّد موارد طبيعية، بل تحوّلت إلى أداة ضغط سياسي واستراتيجي بيد القوى الكبرى.
وبينما تحتكر الصين سلاسل التكرير والتصدير، تسابق الولايات المتحدة وأوروبا الزمن لتأمين بدائل، وسط مشهد جيوسياسي مشحون وتحولات هيكلية في الاقتصاد العالمي.