في وقتٍ يتزايد فيه التركيز على قضايا الفقر والتفاوت الاقتصادي حول العالم، رحل البابا فرنسيس عن عمر 88 عاماً، وفق ما أعلنه الفاتيكان، بعد معاناة طويلة نتيجة تدهور حالته الصحية، أعقبت إصابته بالتهاب رئوي حاد في وقت سابق من هذا العام.
وخلال فترة حبريته، وفقاً لتقرير نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال»، أعاد فرنسيس توجيه خطاب الكنيسة الكاثوليكية نحو قضايا العدالة الاجتماعية، إلى جانب إدخال تغييرات إدارية على منظومة الفاتيكان المالية.
كما أولى القضايا الاجتماعية والاقتصادية اهتماماً خاصاً، متجاوزاً حدود الكنيسة، إذ دافع عن إصلاحات هيكلية شاملة، من قضايا عدم المساواة في الدخل إلى التغير المناخي، مع تركيزه على الجنوب العالمي.
أعاد فرنسيس، وهو أول بابا من الأميركيتين، توجيه أولويات الكنيسة لتسليط الضوء على الفقر، والتهميش، والتدهور البيئي. وفي رسالته البابوية التاريخية «لاوداتو سي» (Laudato Si) عام 2015، حذر من مخاطر الرأسمالية المنفلتة، ودعا إلى اتخاذ إجراءات سياسية عاجلة لمواجهة التغير المناخي وتقليص الانبعاثات الكربونية. وانتقد ما وصفه بـ«ثقافة الاستهلاك والتخلص» ودعا إلى «كنيسة فقيرة من أجل الفقراء».
وشكلت هذه التوجهات تحوّلاً عن التركيز الأخلاقي التقليدي للكنيسة، إذ شدد على النشاط الاقتصادي الشعبي، وحث القادة على اعتماد سياسات اقتصادية عادلة، وإصلاحات إنسانية للهجرة، وتخفيف عبء الديون عن الدول النامية.
كما أطلق إصلاحات داخلية لتعزيز الشفافية المالية في الفاتيكان، وشهدت هذه الجهود تحديثاً للأنظمة المالية، وإنشاء هيئة مستقلة للإشراف على الاستثمارات، وإعادة هيكلة داخلية شاملة لبنك الفاتيكان ليتماشى مع المعايير الدولية.
وجدت الأجندة الاقتصادية للبابا فرنسيس صدى واسعاً في أميركا اللاتينية وإفريقيا وأجزاء من آسيا، حيث لا تزال آثار الاستعمار، والتبعية الاقتصادية، والتهميش البنيوي حاضرة بقوة. واستناداً إلى جذوره الأرجنتينية، وجّه فرنسيس انتقادات حادة للمؤسسات المالية الدولية، متهماً إياها بتكريس أوجه عدم المساواة الهيكلية، وطرح الفاتيكان كجهة أخلاقية مقابلة لمؤسسات مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
كما حرص على تعزيز التمثيل من الجنوب العالمي في قيادة الكنيسة، إذ جاء نحو ثلثي الكرادلة الذين عيّنهم من خارج أوروبا وأميركا الشمالية، في خطوة تعكس رغبته في نقل مركز الثقل داخل الكنيسة إلى المناطق المتأثرة بالفقر وعدم المساواة.
ورغم الترحيب الواسع الذي حظيت به رؤيته الاقتصادية بين التقدميين، واجهت سياساته مقاومة من التيارات التقليدية والمحافظة، خصوصاً في الغرب. وتسببت انتقاداته للرأسمالية العالمية وسياسات الهجرة بتوتر مع النزعات القومية الصاعدة في أوروبا والولايات المتحدة.
كما أثارت مواقفه المتوازنة في النزاعات الدولية، مثل الحرب في أوكرانيا، جدلاً واسعاً. فعلى الرغم من إعرابه عن تضامنه مع الضحايا، امتنع عن تحميل طرف معين المسؤولية بشكل مباشر، ما أثار استياء بعض الأطراف.
مع ذلك، يُرجح أن تستمر تأثيرات فرنسيس طويلة المدى في توجه الكنيسة نحو القضايا الاقتصادية. فدعواته المتكررة للإدماج الاقتصادي، وانتقاداته المعلنة لجشع الأسواق، وتمكينه لقيادات غير غربية، أسست لتحول مستدام في طريقة تفاعل الكنيسة مع الاقتصاد العالمي.
من المرتقب أن يحدد المجمع القادم ما إذا كانت الكنيسة ستواصل المسار الاقتصادي الذي رسمه فرنسيس أم ستعود إلى أولوياتها التقليدية. ومع أن نحو ثلثي الكرادلة المنتخبين تم تعيينهم خلال حبريته، ما يرجح الاستمرارية، تبقى الانقسامات قائمة بشأن مدى انخراط الكنيسة في معالجة التفاوتات الهيكلية وإعادة تعريف دورها في الحوكمة العالمية.
في حياته وسياساته، جسّد البابا فرنسيس رؤية لكنيسة واعية اقتصادياً، وستعتمد المحافظة على هذا الإرث على القرارات التي ستُتخذ في الأشهر المقبلة. ما هو مؤكد أن فرنسيس أعاد تشكيل دور الكنيسة في الخطاب الاقتصادي المعاصر، بإيمان راسخ بأن لا أحد، خاصة الفقراء والمنسيين، يجب أن يُترك خلف الركب.