تسارع المملكة العربية السعودية في جذب الكفاءات الأجنبية عبر سياسات جديدة مثل التأشيرات الذهبية، في خطوة تهدف إلى تعزيز الابتكار وتنويع الاقتصاد ضمن رؤية 2030. وبينما تُوفر هذه الحوافز فرصاً استثمارية واسعة، تطرح تساؤلات حول تأثيرها على سوق العمل المحلي وأسعار العقارات، خاصة في العاصمة الرياض التي باتت مركزاً لاستقطاب الشركات العالمية.
منذ إطلاق التأشيرات الذهبية عام 2019، توسعت المملكة في منحها لتشمل 18 قطاعاً بحلول 2025، مستهدفة جذب 540 شركة عالمية إلى الرياض، وفق بيانات وزارة الاستثمار. وبلغ عدد العاملين في القطاع الخاص 11.41 مليون شخص في 2024، بينهم 8.69 مليون مقيم، ما يعادل 3.2 أجانب لكل سعودي، ومن المتوقع أن تنمو العمالة الأجنبية بنسبة 5% خلال العام الجاري.
أما من حيث الأجور، فيبلغ متوسط راتب السعودي في القطاع الخاص 10,743 ريالاً شهرياً (2865 دولاراً)، بينما يحصل الأجنبي ذو المهارات العالية على 17,500 ريال (4665 دولاراً)، بفارق يصل إلى 63%، وفق تقرير كوبر فيتش 2025. ويرجع هذا التفاوت إلى الحوافز المقدمة للأجانب، مثل الإعفاءات الضريبية والمكافآت المالية، حيث تصل مكافآت الانتقال إلى 10% من الراتب السنوي، فيما يُشكل الأجانب نحو 70% من العاملين في وظائف الذكاء الاصطناعي بالرياض.
على الرغم من ارتفاع مؤشر مديري المشتريات إلى 54.8 في أغسطس 2024، مما يعكس نمو التوظيف، إلا أن البطالة بين السعوديين لا تزال عند 7% مقارنة بـ0.5% فقط بين المقيمين. وتعمل الحكومة على تقليل هذه الفجوة عبر برامج مثل «تمهير» ودعم صندوق الموارد البشرية، الذي يغطي 50% من رواتب 30 ألف وظيفة صحية جديدة في 2025.
وفي هذا الصدد، قال بندر مسلم، المختص بالشأن الاقتصادي، إن المملكة أطلقت برنامج تنمية القدرات البشرية، وهو أحد برامج الرؤية السعودية، لبناء استراتيجية وطنية طموحة لتنمية قدرات المواطن، بدءاً من مراحل الطفولة، مروراً بالتعليم العام، ووصولاً إلى التدريب والتعلّم مدى الحياة، بمشاركة الجهات الحكومية والقطاع الخاص والقطاع غير الربحي.
وأضاف مسلم، في حديث لـ«إرم بزنس»، أن الشركات العاملة في المملكة حالياً لديها كل المحفزات الحكومية لخلق المزيد من الوظائف، مشيراً إلى أن صندوق الموارد البشرية السعودي يقدم دعماً تحفيزياً للقطاع الخاص على توظيف المواطنين، مما يساهم في خفض معدل البطالة في البلاد.
ومع ذلك، تُظهر البيانات أن الأجانب يهيمنون على 60% من وظائف البناء المتقدمة و45 ألف وظيفة في قطاع الاتصالات، مقابل 35 ألف وظيفة يشغلها سعوديون. ويُفضل أرباب العمل الأجانب لمرونتهم، حيث إن 70% منهم يقبلون عقوداً مؤقتة، مقارنة بـ40% فقط من السعوديين، مما أدى إلى تراجع ميزانيات التدريب بنسبة 12% منذ 2020. وتُشير دراسات السوق إلى أن كل 10 آلاف وظيفة أجنبية جديدة تقلّل فرص السعوديين بنسبة 2% في القطاعات متوسطة المهارات، مما قد يؤخر تحقيق مستهدفات التوطين لما بعد 2030.
أدى تزايد أعداد الأجانب إلى ارتفاع الإيجارات، إذ زادت أسعار الشقق في الرياض بنسبة 15.4% خلال 2024، حيث ارتفع متوسط الإيجار السنوي في مناطق مثل العليا والمرسلات من 40 ألف ريال إلى 46,200 ريال، وفق تقرير «جيه إل إل». ومع تجاوز عدد المقيمين 9 ملايين في يونيو 2024، ارتفع الطلب على الوحدات السكنية، ما أدى إلى زيادة الصفقات العقارية بنسبة 31% في الربع الثاني من 2024.
وتشير التقديرات إلى أن كل 100 ألف مقيم جديد يولّد طلباً على 30 ألف وحدة سكنية، مما أضاف 1.5% إلى مؤشر تكلفة المعيشة في الرياض. وبينما يعزز هذا النمو أرباح الشركات العقارية، فإنه قد يرفع التضخم المحلي إلى 3%، متجاوزاً توقعات الحكومة عند 2.5% وفق ميزانية 2025.
وفي هذا الصدد، أوضح بندر مسلم أن الطلب على العقار يشهد ارتفاعاً كبيراً في الفترة الراهنة، ويقابله ضخ المزيد من المشاريع العقارية الحكومية والخاصة، مما يساهم في تحقيق توازن بين العرض والطلب والوصول إلى أسعار عادلة.
تُعتبر الإمارات وسنغافورة من أبرز الدول التي اعتمدت أنظمة مماثلة لجذب الكفاءات. في دبي، ساهمت التأشيرات الذهبية في رفع عدد السكان بنسبة 5% خلال عامين، مما عزز الطلب على العقارات ورفع أسعارها بنسبة 20%. وفي سنغافورة، على الرغم من مساهمة السياسات الاستثمارية في استقطاب المواهب، فقد فرضت الحكومة سقفاً لنسبة الأجانب في بعض القطاعات لحماية فرص المواطنين، وهو ما قد يكون نموذجاً قابلاً للتطبيق في السعودية لتحقيق توازن بين الاستقطاب والتوطين.
لتحقيق توازن بين جذب الكفاءات الأجنبية واستقرار السوق المحلية، يقترح الخبراء عدة حلول، منها:
زيادة دعم رواتب السعوديين في القطاع الخاص من 50% إلى 70%، مع فرض ضريبة 5% على رواتب الأجانب التي تتجاوز 20 ألف ريال.
تحديد سقف لزيادة الإيجارات بنسبة لا تتجاوز 5% سنوياً لمدة ثلاث سنوات.
رفع نسبة السعوديين في وظائف التكنولوجيا والبناء إلى 50% بحلول 2027، مع مضاعفة برامج التدريب.
ربط منح التأشيرات الذهبية بحد أدنى 40% توظيف سعودي في الشركات الحاصلة عليها.
وفي ظل تسارع النمو الاقتصادي، تبقى السعودية أمام معادلة دقيقة لتحقيق التوازن بين استقطاب العقول العالمية، ودعم الكفاءات المحلية، وضمان استدامة سوق العمل والعقار في المستقبل.