تواجه ألمانيا، باقتصادها القوي ونظامها الاجتماعي المتطور، اليوم تحديات معقدة تجمع بين تسارع وتيرة شيخوخة السكان والزيادة المستمرة في أعداد المهاجرين؛ مما يضعها أمام مفترق طرق حاسم.
بحسب تقرير نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال»، استقبلت ألمانيا خلال العقد الأخير ملايين القادمين الجدد، مما ساهم في استقرار عدد السكان وتعزيز التنوع المطلوب. ومع ذلك، أسفرت هذه التحولات الديموغرافية عن تحديات اقتصادية واجتماعية وسياسية قد تُعيد رسم ملامح مستقبل البلاد.
تواجه ألمانيا أزمة ديموغرافية ناجمة عن عقود من انخفاض معدلات الولادة وارتفاع نسبة الشيخوخة في السكان؛ مما تسبب في اختلال اقتصادي يتمثل في تفوق أعداد المتقاعدين على الداخلين الجدد إلى سوق العمل. وألقى هذا الخلل بظلاله على أنظمة المعاشات والرعاية الصحية، حيث أصبح عدد العاملين أقل من المطلوب لدعم الأعداد المتزايدة من المتقاعدين.
وفقاً لتقرير صادر عن مؤسسة «بيرتلسمان» لعام 2024، تحتاج ألمانيا إلى صافي هجرة يتراوح بين 288,000 و368,000 شخص سنوياً حتى عام 2040 لضمان استدامة قوة العمل. ومع ذلك، يواجه دمج القادمين الجدد في سوق العمل تحديات كبيرة.
فبينما تعاني قطاعات مثل الهندسة والرعاية الصحية والضيافة من نقص حاد في العمالة، يصل معدل البطالة بين غير المواطنين إلى 14.7%، في حين لا يتجاوز 5% بين المواطنين الألمان.
ومنذ عام 2019، يعاني الاقتصاد من حالة ركود، مع تحديات إضافية تتعلق بالاعتراف بالمؤهلات الأجنبية. وتشير البيانات إلى أن 18% فقط من اللاجئين الأوكرانيين في ألمانيا يعملون بكفاءة تكفي لعدم الاعتماد على المساعدات الحكومية، مقارنة بـ65% في المملكة المتحدة و61% في بولندا.
يشهد المشهد الديموغرافي في ألمانيا تغيراً سريعاً. في عام 2021، بلغت نسبة المهاجرين 18.8% من إجمالي السكان، وهو ما يفوق النسبة في الولايات المتحدة التي بلغت 15.3%. وبحلول عام 2022، كان 42% من الأطفال تحت سن الخامسة عشرة ينتمون إلى خلفيات مهاجرة، مما يعكس تدفق العائلات من دول مثل سوريا وأفغانستان وأوكرانيا وغيرها.
ومع ذلك، لا يزال إدماج المهاجرين في سوق العمل يمثل تحدياً كبيراً، وفقاً للتقرير. فالقوانين الصارمة تؤدي إلى تأخير قدرة طالبي اللجوء على العمل لفترات طويلة. كما أن عملية الاعتراف بالمؤهلات المهنية والأكاديمية المكتسبة في الخارج تستغرق وقتاً طويلاً؛ مما يحد من قدرة العمال المهرة على المساهمة الفعالة في السوق.
كمثال على ذلك، يتعين على الكهربائيين والفنيين الميكانيكيين إتمام دورات تدريبية مهنية ألمانية قبل أن يتمكنوا من بدء أعمالهم الخاصة. كما يواجه الأطباء والمعلمون المهاجرون تأخيرات في الحصول على التراخيص اللازمة؛ مما يفاقم من نقص العمالة في هذه المجالات.
تقرير «وول ستريت جورنال» أشار إلى أن تدفق المهاجرين لم يؤثر فقط على الاقتصاد، بل أسهم أيضاً في إعادة تشكيل النسيج الاجتماعي في مدن مثل زول، الواقعة في وسط ألمانيا. على مدار العقد الماضي، تضاعف عدد السكان المولودين في الخارج في زول خمس مرات، ليشكلوا أكثر من 13% من إجمالي السكان البالغ عددهم 35,000 نسمة. وعلى الصعيد الوطني، يشكل المهاجرون 60% من متلقي المساعدات الاجتماعية و41% من مرتكبي الجرائم، وفقاً لإحصائيات الشرطة لعام 2023، مما أثار قلقاً متزايداً لدى المواطنين.
هذه القضايا أدت إلى انقسام سياسي واسع، ففي سبتمبر، حقق حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف فوزاً في أول انتخابات ولاية له في تورينغن، التي تقع فيها مدينة زول. ويشمل برنامج الحزب الدعوة إلى عمليات ترحيل جماعي وتشديد الضوابط على الحدود نتيجة تزايد الاستياء بين المواطنين. وأظهر استطلاع حديث أن 77% من الألمان يرون ضرورة لإصلاح سياسات الهجرة، بينما أعرب 51% عن خشيتهم من تصاعد التوترات السياسية نتيجة للهجرة.
تتعرض الخدمات الاجتماعية في ألمانيا لضغوط متزايدة. ففي تورينغن، تستوعب مرافق الاستقبال الأولية، التي صُممت لاستيعاب 800 طالب لجوء، أضعاف هذا العدد في كثير من الأحيان. وتؤدي الظروف المزدحمة وغير الصحية إلى تفاقم التوترات، حيث تسجل الحوادث مثل إحراق المباني عمداً وأعمال العنف.
تواجه المدارس تحديات مماثلة، ففي إرفورت، عاصمة تورينغن، يشكل الطلاب غير الناطقين بالألمانية 35% من إجمالي عدد الطلاب، مما يصعب عملية الاندماج التعليمي. كما تعيق القيود المالية والانقسامات الثقافية جهود تعزيز الشمولية. فالمدارس في المناطق ذات الكثافة العالية من المهاجرين تعاني من مشاكل لغوية، بينما يؤدي الفصل السكني إلى تفكك اجتماعي.
رغم هذه التحديات، أشار التقرير إلى أن المهاجرين يسهمون بشكل كبير في الاقتصاد الألماني. فالأجانب أكثر ميلاً لامتلاك الأعمال التجارية، مما يساهم في تنشيط الاقتصادات المحلية في مناطق مثل تورينغن. وقد نجح رواد الأعمال المهاجرون في تحويل الشوارع المهجورة إلى مراكز تجارية حيوية، من خلال أسواق سورية، ومحلات حلاقة عربية، ومتاجر بقالة آسيوية.
أما قطاعات اللوجستيات والنقل، التي تعد أساسية لاقتصاد تورينغن، فتعتمد بشكل كبير على العمالة المهاجرة. وأوضحت بعض وكالات التوظيف في الولاية، أن العمال المهاجرين قد ساهموا بشكل كبير في استقرار معدلات الوظائف في المنطقة.
وفقاً للتقرير، اعترفت الحكومة الفيدرالية الألمانية بالتحديات التي تواجهها البلاد. فقد أعاد المستشار أولاف شولتس مؤخراً فرض ضوابط على الحدود، وتعهد بتسريع عمليات ترحيل المهاجرين غير الشرعيين. كما تم إعادة فرض العقوبات على المساعدات الاجتماعية لأولئك الذين يرفضون العمل.
يتبنى الاتحاد الديمقراطي المسيحي (CDU)، الذي يمثل التوجهات اليمينية الوسط، سياسات هجرة أكثر صرامة، وهو الحزب المتوقع فوزه في الانتخابات العامة المزمع إجراؤها في فبراير. وتشمل سياساته إعادة طالبي اللجوء الذين يصلون عبر دول الاتحاد الأوروبي الأخرى. وأكد رئيس الحزب، فريدرش ميرتس، أن النظام الحالي في ألمانيا غير مستدام، مشدداً على ضرورة وجود هجرة منظمة تتماشى مع احتياجات سوق العمل.
بينما تواجه ألمانيا هذه التحديات، أفاد التقرير بأن عليها أن تحقق توازناً دقيقاً. فالهجرة تعد ضرورية لمعالجة نقص العمالة ودعم النمو الاقتصادي، لكن الاندماج الفعّال يعد المفتاح لضمان التماسك الاجتماعي. كما أكد على ضرورة أن يعمل صناع القرار على معالجة الحواجز النظامية وتعزيز ثقة الجمهور لبناء مستقبل شامل ومزدهر.
تقدم ألمانيا تجربة مهمة للدول الأخرى التي تواجه ضغوطاً ديموغرافية واقتصادية مشابهة. فالخيارات التي ستتخذها في السنوات المقبلة لن تحدد مسار ألمانيا فحسب، بل ستشكل أيضاً نموذجاً لإدارة الهجرة في عالم مترابط.