تشهد الأسواق المالية تغييرات جوهرية نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة طويلة الأجل وقوة الدولار الأميركي المتزايدة؛ ما يؤدي إلى تشديد الظروف المالية على مستوى العالم. لكن لفهم الصورة بشكل كامل، من المهم أن ندرك أن ارتفاع الدولار وتشديد الظروف المالية، ليسا عاملين منفصلين، بل هما مترابطان في حلقة معقدة تؤثر في أداء الأسواق العالمية.
البداية تكون دائماً مع أسعار الفائدة. بنك الاحتياطي "الفيدرالي" الأميركي، وفي محاولة منه للسيطرة على التضخم، رفع أسعار الفائدة بأكثر من 4.5% على مراحل. هذه الزيادات تؤدي إلى زيادة تكلفة الاقتراض؛ ما يجعل من الصعب على الأفراد والشركات الحصول على التمويل.
لكن هذه السياسات لا تؤثر فقط على الولايات المتحدة، بل تمتد تداعياتها إلى العالم بأسره. فارتفاع الفائدة يجعل السندات الأميركية أكثر جاذبية للمستثمرين الأجانب؛ ما يعني تدفقات مالية كبيرة نحو الدولار. وهذا التدفق، يعزز قيمة الدولار مقابل العملات الأخرى. لذلك، عندما يرتفع الدولار، تبدأ الآثار في الانتشار بشكل أوسع، ويكون أولها ارتفاع تكاليف الديون الدولية، لأن معظم هذه الديون مقومة بالدولار. وبالتالي، فإن ارتفاع قيمة العملة الأميركية يعني أن الدول والشركات تحتاج إلى المزيد من عملاتها المحلية لسداد الديون، ما يزيد العبء المالي عليها.
كما أن ارتفاع الدولار يقلل من قدرة الدول على الاقتراض بالعملة الأميركية؛ ما يؤدي إلى تقليل السيولة المتاحة في الأسواق. وبالتالي، يسهم الدولار في تعميق تشديد الظروف المالية على مستوى العالم.
في الوقت ذاته، هناك تأثير مزدوج على الشركات والأسواق. الشركات الأميركية على وجه الخصوص، ستعاني ارتفاع الدولار بسبب زيادة تكاليف التصدير، حيث تصبح المنتجات الأميركية أغلى في الأسواق العالمية، ما يقلل الطلب عليها، ويؤدي إلى انخفاض أرباح الشركات.
هناك كذلك التأثير المباشر على الأسهم، حيث تشير البيانات إلى أن كل 1% زيادة في مؤشر الدولار (DXY) تؤدي إلى نصف في المئة انخفاضاً في أرباح الشركات المدرجة على مؤشر «إس أند بي 500». ومع ارتفاع الدولار 6% منذ أكتوبر، قد تنخفض أرباح الشركات بنسبة تصل إلى 3%، ما سيؤدي إلى تراجع في تقييمات الأسهم.
يؤدي ارتفاع أسعار الفائدة إلى تعزيز الدولار، وهذا يسهم بدوره في تشديد الظروف المالية عالمياً. إنها حلقة مفرغة تضع المزيد من الضغوط على الأسواق المالية، حيث تصبح تكاليف الاقتراض أعلى، والسيولة أقل، وأرباح الشركات أضعف.
في المقابل، فإن استمرار قوة الاقتصاد الأميركي يدفع المستثمرين إلى شراء المزيد من الأصول المقومة بالدولار، ما يعزز قيمته أكثر. وهكذا، تستمر الحلقة.
إن تشديد الظروف المالية وارتفاع الدولار ليسا ظاهرتين منفصلتين، بل هما وجهان لعملة واحدة. السياسات النقدية الأميركية، التي تهدف إلى كبح التضخم، تعزز هذه العلاقة المتشابكة. ومع استمرار قوة الاقتصاد الأميركي وارتفاع أسعار الفائدة، يبدو أن الأسواق ستظل تحت ضغط مزدوج، ما يجعل من الضروري مراقبة هذه العلاقة وتأثيراتها على الاقتصادات العالمية.