في قلب الأزمة الاقتصادية التي يواجهها لبنان، يبرز قانون الإيجارات الجديد كأحد أكثر الملفات إثارة للجدل، حيث يفتح جرحاً عميقاً بين المالِكين والمستأجرين.
منذ أن انتهت صلاحية قانون الإيجارات القديم في منتصف عام 2022، تعمقت الأزمة، وبدأ المالِكون في اللجوء إلى القضاء لمطالبة المستأجرين بالإخلاء، مستفيدين من الفراغ القانوني الذي خلفه. ومع إقرار قانون جديد في أواخر 2023، أصبحت المواجهة بين الطرفين أكثر تعقيداً، إذ تنذر التعديلات في القانون بزيادة حدة النزاع، وقد تؤدي إلى موجة من الإغلاقات وضغوط اقتصادية إضافية قد تكون القشة التي تقصم ظهر المؤسسات الصغيرة، التي باتت لا تقدر على تحمل الزيادات الضخمة في الإيجارات.
الجواب ليس بسيطاً. القانون الذي يُفترض أن ينهي "الفوضى" القانونية، يبدو أنه سيزيد الأمور تعقيداً، خاصة بالنسبة للمستأجرين القدامى الذين ارتبطت أعمالهم بإيجارات قديمة للغاية، وفي الوقت الذي يهدف إلى رفع الإيجارات تدريجياً إلى قيمتها السوقية العادلة، قد يغير المشهد العقاري في لبنان بالكامل، وقد يهدد أيضاً استمرارية العديد من المحال الصغيرة والمؤسسات الناشئة التي قد لا تكون قادرة على تحمل الزيادات.
قبل عام 1992، كان قانون الإيجارات في لبنان يحمي المستأجرين من الارتفاعات الفاحشة في الإيجارات، لكنه بقي في مكانه لعقود. القانون 243/2017، الذي كان يمدد عقد الإيجار بشكل سنوي للمحال التجارية والمكاتب التي أُبرمت قبل عام 1992، ساعد الكثير من المستأجرين على البقاء في مواقعهم بأسعار متدنية، لكن انتهت صلاحيته في منتصف عام 2022، دون أن يضع المشرع قانونًا بديلاً لسنوات.
ما حدث بعد ذلك كان فوضوياً. استفاد المالِكون من الفراغ القانوني ليبدؤوا في التوجه إلى القضاء، مطالبين بإخلاء المستأجرين بحجة أن العقود لم تعد محمية قانونياً. الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، حيث بدأت المحاكم في إصدار قرارات بإخلاء مستأجرين ودفع غرامات ضخمة على تأخير الدفع؛ ما أدى إلى زيادة التوتر بين الطرفين.
في ديسمبر 2023، أقرّ مجلس النواب اللبناني قانوناً جديداً يهدف إلى تحرير عقود الإيجار القديمة تدريجيًا، لتصل الإيجارات إلى قيمتها السوقية العادلة أو ما يعرف بـ"بدل المثل". خلال فترة انتقالية تمتد من سنتين إلى أربع سنوات، سيتم رفع الإيجارات بشكل تدريجي، حتى تصبح قريبة من الأسعار التي يدفعها المستأجرون الجدد.
لكن، رغم أن هذا التعديل كان ضرورياً في العديد من الجوانب، فإنه يطرح سؤالاً كبيراً: هل يستطيع المستأجرون تحمّل هذه الزيادات؟.
في حديث لـ"إرم بزنس" مع الباحث الاقتصادي محمد فحيلي من الجامعة الأميركية في بيروت، أشار إلى أن القانون يهدف إلى "إعادة العدالة للمالِكين الذين عانوا انخفاض قيمة الإيجارات القديمة". لكن المشكلة الكبرى تكمن في أن المستأجرين، خاصة أصحاب المحال الصغيرة أو المؤسسات الناشئة، قد لا يكون لديهم القدرة على دفع هذه الزيادات، وهو ما قد يؤدي إلى إغلاق العديد من المحال التجارية أو تقليص عدد الموظفين.
ويضيف فحيلي، أن الكثير من المالكين يعتمدون على الإيجارات كمصدر رزق أساس، ولكن بسبب ارتفاع الأسعار وانهيار قيمة الليرة، أصبحت الإيجارات القديمة شبه رمزية، في حين أن القانون الجديد يهدف إلى إعادة بعض العدالة للمالكين، وتشجيع الاستثمار في العقارات التجارية، وزيادة إيرادات الدولة من خلال العقود الجديدة."
من جهة أخرى، يرى كاسترو عبدالله، رئيس لجنة الدفاع عن حقوق المستأجرين في لبنان، أن القانون الجديد مجحف بحق المستأجرين، خصوصاً في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة. عبدالله يؤكد لـ"إرم بزنس" أن القانون لا يقدم أي استثناءات خاصة للمستأجرين الذين دفعوا مبالغ كبيرة تحت مسمى "الخلوة"، التي كانت بمثابة "شراء" حقوق الإيجار. وبالنسبة للعديد من هؤلاء المستأجرين، فإن رفع الإيجارات بشكل مفاجئ قد يكون غير عادل بالنظر إلى المبالغ الضخمة التي دفعوها في الماضي.
يؤكد عبدالله أن غياب خطة حكومية لدعم المؤسسات الصغيرة والمستأجرين في مواجهة التعديلات قد يؤدي إلى تداعيات خطيرة، من بينها موجة إغلاقات للمحال التجارية وضغط أكبر على الفئات الاجتماعية الضعيفة. هذا بالإضافة إلى أن الزيادة المستمرة في الإيجارات قد ترفع أسعار السلع والخدمات؛ ما يفاقم الأزمة الاقتصادية في لبنان.
وفي هذا السياق، دعا الحكومة اللبنانية إلى التدخل السريع لوقف "الفوضى القانونية والاجتماعية" التي قد يتسبب بها تطبيق القانون الجديد. وقال إن اللجنة التي يرأسها تعمل على التفاوض مع السلطات والمالِكين، ولكن في حال فشلت هذه المحاولات، فإن تحركات شعبية قد تكون في الأفق، تطالب بتعديلات جوهرية في القانون تضمن العدالة بين الأطراف.
لا يقتصر التحدي على تحديد زيادات الإيجار فحسب، بل أيضاً على آلية تطبيق هذه الزيادات. فهناك غموض واضح في كيفية حساب الزيادات على الإيجارات؛ ما قد يؤدي إلى نزاعات قانونية بين المالِكين والمستأجرين. في بعض الحالات، قد يعتمد كل طرف على خبير عقاري مختلف، ما قد يؤدي إلى تقييمات متناقضة تفتح الباب لمزيد من الصراعات.
إلى جانب كل هذه التحديات، يبقى السؤال الكبير: هل ستنجح الدولة في معالجة هذا الملف بطريقة تحفظ التوازن بين حقوق المالِكين والمستأجرين؟ ما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه الحكومة لتجنب انفجار اجتماعي قد يزيد الوضع الاقتصادي تعقيداً؟
في غياب حلول سريعة، فإن الأفق اللبناني يبدو غامضاً، مع تبعات سلبية قد تكون أكبر من المتوقع.