مع مطلع مارس 2025، أعلن صندوق الاستثمارات العامة السعودي (PIF) خطة طموحة لاستثمار 100 مليون دولار للاستحواذ على حصة 15% في مجموعة "طيران آسيا" الماليزية الأم، التي تصل قيمتها السوقية إلى ملياري دولار.
لم يكن هذا الإعلان حدثاً عابراً، بل جزءاً من موجة استثمارية تشمل جهاز أبوظبي للاستثمار (ADIA) وجهاز قطر للاستثمار (QIA)، اللذان يتطلعان إلى حصص في شركات مثل "لوفتهانزا" الألمانية و"الخطوط الأذربيجانية". هذه الصناديق، التي تدير أكثر من 4.9 تريليون دولار، لا تكتفي بمطاردة الأرباح السريعة. إنها تعيد تشكيل مكانة الخليج في الاقتصاد العالمي، مستغلة فرصاً مثل سوق الطيران الذي يتوقع نموه إلى 40.59 مليار دولار بحلول 2031. لكن ما الذي يدفع هذا السباق نحو قطاع الطيران؟ وما الجوانب الخفيّة التي قد تحدد قواعد اللعبة؟
الهدف الأول واضح، وهو تحويل الفوائض النفطية إلى استثمارات مستدامة بعيداً عن الهيدروكربونات. فأسعار النفط، التي يتوقع أن تستقر بالقرب من مستويات عند ال 70 دولاراً للبرميل— أقل من نقطة التعادل السعودية المرتفعة إلى 90 دولاراً حسب توقعات صندوق النقد الدولي لعام 2025— تضغط على الاقتصادات الخليجية. لكن الفوائض الضخمة السابقة، وفرت سيولة كبيرة. اختارت صناديق الطيران، وهو قطاع يتوقع أن يشهد نمواً سنوياً مركباً قدره 13.4% خلال الفترة 2024-2031 ليصل إلى 1.9 تريليون دولار في عام 2030. هذا النمو الكبير يأتي مدفوعاً بالطلب المتزايد على السفر الجوي، خاصة في منطقتي آسيا- المحيط الهادئ وأميركا الشمالية، مع توقعات بوصول سوق المنطقة إلى 47.88 مليار دولار بحلول 2029 وبمعدل نمو يصل إلى 4.84%.
السعودية، التي تهدف إلى رفع أصول صندوقها السيادي من 925 مليار دولار إلى ما بين 2 و3 تريليون بحلول 2030، ترى في شركة "طيران آسيا"، بأسطولها البالغ 109 طائرات وطلبات 357 طائرة إيرباص، فرصة استراتيجية. هذا الاستثمار يدعم "طيران ناس"، الذي يتوقع طرحاً بـ2 مليار دولار في 2025، بينما تستعد الإمارات لطرح "الاتحاد للطيران" بمليار دولار.
فالطيران ليس مجرد رهان مالي، إنه استثمار في السياحة، التي شهدت نمواً بنسبة 12% في الخليج في 2024، مع ارتفاع مذهل بنسبة 73% في عدد السياح الدوليين بالسعودية خلال الأشهر السبعة الأولى من 2024، ما يشكل دعامة لرؤية 2030 الرامية إلى تقليص الاعتماد على النفط وزيادة مساهمات قطاعات أخرى.
وراء الأرقام، يبرز النفوذ كدافع رئيس. استثمار صندوق الاستثمارات العامة السعودية في "طيران آسيا" يمنح السعودية موطئ قدم في جنوب شرق آسيا. وهي منطقة تشهد نمواً في حركة المسافرين بنسبة 7.2% سنوياً (توقعات بوينغ)، متجاوزة المتوسط العالمي.
أما صفقة جهاز أبوظبي للاستثمار المحتملة في "لوفتهانزا" تعزز نفوذ الإمارات في أوروبا، حيث تواجه شركات الطيران تأخيرات في تسليم الطائرات وارتفاع تكاليف التشغيل. هذه الخطوات تتجاوز الاستثمارات الرمزية، مثل 3 مليارات دولار في "نينتندو" عام 2022، إلى قطاع يربط القارات ويؤثر في سلاسل التوريد. إنه أمر حيوي في عالم مضطرب بأزمات الطاقة والتجارة.
يعزز الطيران القوة الناعمة بطريقة لا توفرها صفقات الاستحواذ في العقارات. الخطوط القطرية المدعومة بأرباح تفوق 1.7 مليار دولار في 2023/2024، أصبحت رمزاً لنفوذ قطر. وتسعى أجهزة الاستثمار في كل من السعودية والإمارات للمثل، مستفيدة من مطار زايد الذي تصل سعته لنحو 45 مليون مسافر سنوياً، ومطار الرياض الموسع لـ120 مليون مسافر بحلول 2030، وهي بنى تحتية تتفوق على نظيراتها الإقليمية.
جانب آخر مخفي هو التنافس الإقليمي، فدول الخليج التي تسيطر معاً على 40% من أكبر 10 صناديق سيادية في العالم، تتصارع على الهيمنة الجوية. قطر تقود بالخطوط القطرية (طرحاً متوقعاً قبل 2030)، والإمارات أعادت هيكلة "الاتحاد للطيران" بنجاح، بينما تسعى السعودية عبر "طيران ناس" و"طيران آسيا" للحاق بالركب. هذا التنافس يعيد إلى الأذهان انهيار "طيران الخليج" الموحد في 2002 عند انسحاب قطر. لكن اليوم، كل دولة تبني أجنحتها بشكل مستقل.
في 2007، واجهت الصناديق انتقادات بشأن استثماراتها الدولية، لكن الطيران يقدم حالة مختلفة، فهو يعزز الاقتصاد المحلي عبر المطارات والبنية التحتية، ويمنح نفوذاً عالمياً، ما يجعله أكثر قبولاً إقليمياً. استثمار صندوق الاستثمارات العامة السعودي في "طيران آسيا"، يعكس هذا التوازن القائم على دعم نمو آسيوي مع تعزيز مكانة السعودية.
لماذا الطيران؟ أولاً، الأمن الاقتصادي. النفط يشكل 70-90% من إيرادات الخليج، لكن الطيران يوفر دخلاً مستقراً، على عكس العقارات المتقلبة مثلاً. ثانياً، النفوذ الجيوسياسي. السيطرة على شركات الطيران التي تربط العالم، وتعزز التجارة والسياحة، كما فعلت قطر. ثالثاً، الاستدامة تفتح الطريق للطائرات الكهربائية، وهذا ما يتناسب مع خطط دول الخليج الخضراء، مثل استثمارات السعودية الشمسية بـ5 مليارات دولار.
كما أن دول الخليج ترى أن الطريق سالك أمام نجاح استثماراتها في قطاع الطيران، إذ لا تخطط الصين لتوجيه فوائضها المالية نحو هذا القطاع، فهي تركز على البنية التحتية بصندوقها البالغ 1.35 تريليون دولار، بينما يختار الخليج. فيما أوروبا، المتأثرة بأزمات الطاقة، تتردد وتوجه استثماراتها صوب حلول الحصول على بدائل للغاز الروسي.
لكن الطموح له ثمن، فالتمويل الخارجي السعودي الذي يتوقع أن يصل إلى 8.3 مليار دولار في 2024-2025، يعرض الصناديق لتقلبات الفائدة، خاصة مع "سايبور" عند 2.3% في 2025. فإذا كانت الإمارات قد نجحت في إنقاذ "الاتحاد للطيران"، فإن "طيران ناس" قد تحتاج وقتاً لتتطابق مع "طيران آسيا" (109 طائرات. كما يجب عدم إغفال المخاطر السياسية— مثلما حدث في 2007— قد تعود إذا رأى العالم هذا التوسع تهديداً.
صناديق الخليج تبني مستقبلاً بأجنحة؛ بهدف مراكمة الأرباح والنفوذ، ولكن في ساحة من التنافس. استثمار صندوق الاستثمارات العامة السعودي في "طيران آسيا"، مع خططها لـ357 طائرة إضافية، يعكس هذا الطموح، مدعوماً بسياحة خليجية تنمو بنسبة 12%. مقارنةً بأزمة 2014-2016 التي شهدت خسائر 450 مليار دولار، هذا التحرك أكثر ذكاءً، لكن النجاح يعتمد على إدارة المخاطر مقابل التمويل، والمنافسة، والتقلبات العالمية. فالخليج يطير عالياً، لكن الهبوط السلس ليس مضموناً.