تشهد المدن حول العالم تغيّرات سريعة، فرضتها التطورات التكنولوجية التي شرعت في تغيير مفاهيم التنقل والخدمات وإدارة الحياة العامة، غير أن مناطق بعينها قد تشكّل التكنولوجيا بالنسبة لها طوق نجاة ونقلة إلى واقع أكثر استقراراً.
العاصمة العراقية بغداد، التي تحتضن 8 ملايين نسمة، شهدت تحولات كبيرة ومتسارعة في العقدين الأخيرين، تعرضت خلالهما لأزمات سياسية واقتصادية واجتماعية مصحوبة بانعدام الأمن والنزوح وتعثر التخطيط الحضري. وفيما يسعى العراق إلى لملمة جراحه، يبحث بين الحلول التكنولوجية الحديثة عن مخرج لأزماته ومفاهيم حضرية جديدة من شأنها إعادة عاصمته إلى المشهد.
وفق هذا النهج، تعمل شركة التكنولوجيا العالمية «داهوا» (Dahua Technology)، المتخصّصة في حلول وخدمات إنترنت الأشياء والمدن الذكية، بالشراكة والتعاون مع الحكومة العراقية، على تطبيق أحدث مفهوم عالمي للمدن الذكية في بغداد يسمى «التوأم الرقمي»، من شأنه أن يغيّر ملامح وسبل الحياة في العاصمة العراقية في المستقبل القريب.
عادة ما تتذيل مدينة بغداد القائمة في المؤشرات الدولية الخاصة بجودة الحياة ومستوى الأمن. وفي أحدث تقرير صادر عن شركة «ميرسر» (Mercer) للاستشارات، حلّت بغداد بين المدن الأدنى مرتبة من حيث جودة المعيشة.
كما تشتهر العاصمة العراقية بالازدحامات المرورية الخانقة، خاصة خلال ساعات الذروة، وبمعدلات مرتفعة لحوادث الطرق، حيث شهدت المدينة 1145 حادثاً مرورياً خلال عام 2021 وحده، وفق ما أورده تقرير للمركز الفرنسي للأبحاث حول العراق استناداً إلى بيانات حكومية.
يقوم مفهوم المدن الذكية المعروفة أيضاً بـ«المدن 4.0»، على الأدوات والمنهجيات التي تدور حول التكنولوجيا لضمان نوعية حياة أفضل ومستقبل أكثر أماناً وكفاءة واستدامة، عبر تطبيق حلول فعّالة لجميع التحديات التي قد تواجه مدينة ما، في مقدمتها التنقل والخدمات العامة والإدارة الفعالة للاقتصاد.
المفهوم الأساسي وراء المدينة الذكية يكمن في التمكن من التحكم في مدينة بأكملها وإدارتها بشكل شامل، وفق ما أوضحه عبد الله انتخاب، مدير الحلول في شركة «داهوا» لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والمسؤول عن الحلول المتعلقة بالحكومات والمدن الذكية.
وقال في حديث إلى «إرم بزنس» على هامش معرض «جيتكس غلوبال 2024» الذي تختتم فعالياته اليوم الجمعة في دبي، إن «التوأم الرقمي هو عبارة عن نسخة رقمية طبق الأصل عن المدينة، يتم من خلالها رسم خريطة ثلاثية الأبعاد للمدينة بالكامل داخل النظام تمكننا من الاطلاع على أي أنظمة نرغب في رؤيتها مباشرة، مثل أنظمة المرور مثلاً».
وتابع: «إننا نرى عرضاً حياً وأرقاماً لحظية، ونتمكن من التحكم الكامل بأبعاد المدينة والمباني والأماكن داخل المباني. وبدلاً من الذهاب سيراً على الأقدام والتجوّل في المبنى، يمكّننا التوأم الرقمي من القيام بجولة افتراضية. بالتالي، يمكن لحارس الأمن الجلوس في غرفته، والقيام بجولة افتراضية في المكان بالكامل ومعرفة ما إذا كان ثمة شيء ما يحدث هناك».
تُغني هذه التقنية مثلاً عن الدور الذي تقوم به المروحيات في العادة، والتي تحلق مراراً لتفحص حركة المرور من خلال البحث في كيفية تحرك الأشياء، وما إذا كان هناك خطب في أي مكان، من مواقف أو حوادث؛ غير أن تقنية «التوأم الرقمي» تمكن من القيام بكل ذلك من خلف شاشات أجهزة الكمبيوتر المحمولة، كما أوضح «انتخاب».
وقال: «لقد بدأ تطبيق هذا المفهوم بالفعل في بغداد، ليس على مستوى المدينة بأكملها، ولكن على جزء صغير منها بالقرب من منطقة جامعة بغداد. وبمجرد التحقق من المفهوم، سنوسع تطبيقه إلى أجزاء أخرى من المدينة».
وأضاف: «بالنسبة للتوائم الرقمية ومفاهيم المدن الذكية، عادةً ما نبدأ بالأقسام الأكثر أهمية أو الأكثر هشاشة في المدينة ثم نوسع التطبيق ليشمل بقية الأجزاء».
يقوم إنجاز هذا النوع من المشروعات على الشراكة والتعاون الصريحين مع الحكومة، نظراً لنوع الموارد والوصول الذي تحتاج إليه، كالمخططات التفصيلية للمدينة والطرق وحركة المرور، بحسب مدير الحلول في شركة «داهوا» لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
ولفت إلى أن التكلفة النهائية تختلف حسب المدن والدول، كما تعتمد على مستوى النشر الذي يعتزمون تنفيذه، بالتالي لا توجد تكاليف ثابتة فقد تبدأ من مستوى منخفض للغاية وتنتقل إلى أرقام لا يمكن تصورها.
وتابع: «نحن الآن في مرحلة المفهوم، وسيستمر نمو المشروع، إذ بمجرد موافقة الحكومة على المفهوم والتحقق منه سننتقل إلى مستوى أعلى وأعمق من التطوير، بعدها يمكن أن يتم توسيع التطبيق بسرعة كبيرة. وإذا حصل كل شيء على الضوء الأخضر، أفترض أنه في غضون عام أو نحو ذلك، يمكننا أن ننجز النشر الكامل، فالأمر لا يستغرق وقتاً طويلاً».
وتبقى البنية التحتية التحدي الأكبر، وعلى رأسها الاتصالات، فبحسب «انتخاب» تتطلب تغطية كل شارع وطريق وزاوية تركيب أجهزة استشعار أو كاميرات، نظراً للحاجة إلى التواصل مع المقر الرئيس.
قامت شركة «داهوا» بتطبيق تقنيات «المدن الذكية» في دول أخرى حول العالم تشهد اضطرابات أمنية مثل باكستان.
وأشار مدير الحلول في الشركة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إلى أن هذا النوع من المشروعات يمنح وكالات إنفاذ القانون قدراً كبيراً من القوة والصلاحيات للقبض على المتورطين، قبل وقوع الحوادث أو بعدها مباشرة.
وقال: «لنفترض أن خرقاً ما حدث في الشارع (أ) ثم هرب الجاني إلى الشارع (س). إذا كانت لديك تغطية كاملة من الشارع (أ) إلى الشارع (س)، يمكنك حرفياً تتبع أثر الشخص خطوة خطوة، وصولاً إلى منزله حتى».
وضرب مثالاً حول مدينة في الصين تُدعى هانغتشو، التي بعد اعتمادها مزيداً من الحلول التكنولوجية المشابهة، شهدت في غضون عام واحد فقط انخفاضاً في معدل الجريمة، وارتفاعاً في معدل القبض على المجرمين، فانتعشت السياحة، ونمت الاستثمارات، وزادت فرص العمل في المدينة بشكل ملحوظ.
لذلك بحسب رأيه، هذا النوع من الاستثمارات يدر منفعة اقتصادية عظمى، ويغطي التكلفة خلال عامين أو ثلاثة.