معهد الابتكار التكنولوجي في أبوظبي يسعى لإنشاء أول حاسوب كمي للإمارات
وسط زحمة الاختراعات والتقنيات، قد يخال المرء أن التطور التكنولوجي بلغ أوجه، وأن البشرية تخطت العتبة الأخيرة، غير أن تقنية ثورية تستعد للتغلغل والسيطرة على الاقتصاد العالمي، مطلقة معها حقبة جديدة أكثر تأثيراً من ذي قبل.
يقول «المنتدى الاقتصادي العالمي»، إن ما يُعرف بالتكنولوجيا الكمية (أو الكمومية)، ستؤثر في جميع القطاعات الاقتصادية الرئيسة على مدى السنوات العشر المقبلة، فيما تتوقع شركة «ماكينزي» للاستشارات أن تتمكن هذه التكنولوجيا من خلق قيمة تقدر بتريليونات الدولارات خلال العقد المقبل.
من هنا، يمكن فهم الطموحات المبكرة لدول الخليج، وفي مقدمتها الإمارات، للدخول بقوة في عصر الحوسبة الكمية التي تعدّ أحد المجالات الرئيسة التي يتم فيها تطبيق التكنولوجيا الكمية، إذ تسعى هذه الدول نحو تحقيق مزيد من التنمية القائمة على التكنولوجيا، وخلق مساهمة في التطورات التكنولوجية العالمية.
لضمان حجز مكان في ما بات يعرف بـ«الاقتصاد الكمي»، ونيل الأفضلية الاقتصادية والتكنولوجية، بدأت الحكومات في أنحاء مختلفة من العالم، الاستثمار بحماسة في التكنولوجيا الكمية. ووصل إجمالي الاستثمارات المعلنة إلى ما يُقدّر بـ42 مليار دولار حتى الآن، مع تصدر الصين حالياً هذا السباق بضخها نحو 15 مليار دولار، تليها ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة، بحسب أرقام «ماكينزي».
تعمل «الحوسبة الكمية» على تسخير «ميكانيكا الكم» لمعالجة كميات هائلة من البيانات في الوقت نفسه، ما يسمح بإجراء عمليات حسابية تفوق قدرات أجهزة الكمبيوتر التقليدية بكثير. وتُعرَّف «ميكانيكا الكم» على أنها قوانين الفيزياء التي تنطبق على الجسيمات دون الذرية (الأصغر من الذرة)، والتي تعود إلى اكتشافات توصّل إليها علماء الفيزياء في عشرينيات القرن الماضي.
بدلاً من النظام الثنائي الكلاسيكي المكوّن من «البتات» (bits) (0 و1)، تستخدم أجهزة الكمبيوتر الكمية «الكيوبتات» (qubits)، التي يمكن أن تكون إما في حالة تشغيل، أو إيقاف، أو مزيج من الاثنين. ويرجع هذا إلى تأثير التراكب في نظرية الكم، ما يعني باختصار، أن الجسيمات يمكن أن توجد في حالات متعدّدة خلال الوقت ذاته.
وبالاستناد إلى هذه القدرات، سيكون «عصر الكم» حاسماً في إيجاد حلول لتحديات كبرى تواجه البشرية. على سبيل المثال، ستوفر الحوسبة الكمية بما تتمتع به من قدرة على حل المشكلات المعقدة بشكل أسرع بكثير من أقوى أجهزة الكمبيوتر العملاقة، فهماً أعمق لأمراض ظلت عصيّة على العلاج، مثل الزهايمر وباركنسون والسرطان، ما قد يقودنا إلى إيجاد حلول نهائية لها.
تعد دولة الإمارات من بين المهتمين الأوائل بمجال الحوسبة الكمية وتطبيقاتها، وذلك في إطار سعيها نحو اقتصاد مستدام قائم على المعرفة، وإيجاد حلول للتحديات في مختلف القطاعات.
وعلى هذا الصعيد، أطلقت أبوظبي «مركز بحوث الكوانتوم» التابع لـ«معهد الابتكار التكنولوجي» (TII)، وهي تعتزم إنشاء أول حاسوب كمي إماراتي بالتعاون مع شركة «كليمنجارو كوانتوم تك» (Qilimanjaro Quantum Tech) لتكنولوجيا الكم ومقرها برشلونة.
كذلك، من المقرر أن يستضيف «متحف دبي للمستقبل» هو الآخر حاسوباً كمياً بالتعاون مع شركة «دي ويف سيستمز» (D-Wave Systems) الكندية، التي تعد أول مزود تجاري للحواسيب الكمية في العالم. وتسعى دبي إلى توظيف الحاسوب في المجالات العلمية، والتجارب المخبرية، وتعزيز القدرات في مجال الحوسبة الكمية والذكاء الاصطناعي.
قال البروفيسور أندرو لوتكين، المدير التنفيذي في «معهد الابتكار التكنولوجي» في أبوظبي، لـ«إرم بزنس»، إن «الإمارات حققت تقدماً ملحوظاً في إنشاء أول حاسوب كمي لها، بقيادة معهد الابتكار التكنولوجي. فقبل عامين، نجح مختبر الحوسبة الكمية التابع للمعهد في تصنيع أول (كيوبت) فائق التوصيل في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ما مثّل مَعلماً حاسماً في تطوير الخبرة المحلية».
لوتكين أشار إلى أن المعهد بصدد توسيع نطاق الإنتاج من خلال تصنيع العشرات من الرقائق متعددة «الكيوبت» كل شهر، مع تحسين تعقيد وجودة معالجاته. ولتسريع الخطى، يستفيد المعهد من الشراكات مع الموردين الدوليين للوصول إلى رقائق أكثر تعقيداً، ما يضمن إمداداً ثابتاً من «الكيوبتات» لأنظمته الكمية.
تمتد طموحات الإمارات إلى ما هو أبعد من إنشاء حاسوب كمي. فبحسب ما كشف عنه المدير التنفيذي في «معهد الابتكار التكنولوجي»، تهدف الدولة إلى تحقيق الاستقلال الإستراتيجي في تكنولوجيا الكم. فمن خلال تطوير قدراتها الداخلية، تخفف الإمارات من المخاطر التي تفرضها ضوابط التصدير الدولية، الأمر الذي يضمن استمرارية القدرة على المنافسة في مجال يُتوقع أن تبلغ قيمته تريليونات الدولارات.
قال لوتكين: «الهدف هو وضع الحوسبة الكمية كأداة حيوية يمكن لصناعات مثل التمويل، والخدمات اللوجستية، والرعاية الصحية، الوصول إليها بسلاسة. هذا يحفز الابتكار عبر القطاعات». ولفت إلى أن أبحاث «معهد الابتكار التكنولوجي» تشمل أيضاً الاستشعار والاتصالات الكمّيين، وهو ما يعِد بتقديم فوائد لخلق تحوّل في مختلف الصناعات.
وأضاف: «تعكس هذه المبادرات هدف الإمارات المتمثل في إرساء حضور تنافسي في مجال التكنولوجيا الكمية على المستويين الإقليمي والدولي. ومن خلال مواصلة الاستثمار في التقنيات الكمية، تتطلع الدولة للتحول إلى لاعب مهم في التطورات التكنولوجية العالمية المستقبلية، والمساهمة في التقدم الاقتصادي والمجتمعي».
إلى جانب الإمارات، تبرز جهود كل من السعودية وقطر للدفع بطموحات المنطقة في هذا المجال، وذلك من خلال «مركز أبحاث الحوسبة الفائقة» بجامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، و«مركز قطر للحوسبة الكمية» بجامعة حمد بن خليفة. كما وقّعت «أرامكو السعودية» في مايو الماضي، اتفاقية مع شركة «باسكال» (Pasqal) المتخصصة في مجال الحوسبة الكمية، لتركيب أول حاسوب كمي في المملكة، من المقرر البدء في استخدامه خلال النصف الثاني من عام 2025.
«تستعد تكنولوجيا الكم لإحداث تحوّل جذري في الاقتصاد العالمي». هكذا ينظر لياندرو أووليتا، المدير التنفيذي في «مركز الابتكار التكنولوجي» في أبوظبي إلى المستقبل. عزا أووليتا في حديث إلى «إرم بزنس» هذا التحول المرتقب، إلى قوة المعالجة غير المسبوقة لأجهزة الكمبيوتر الكمية، والتي تستخدم البتات الكمية الموجودة في حالات متعددة بشكل متزامن.
وأوضح أن هذه القدرة تسمح لأجهزة الكمبيوتر الكمية بحل المشكلات شديدة التعقيد بشكل أسرع بكثير من أجهزة الكمبيوتر الكلاسيكية. ونتيجة لذلك؛ «يُتوقع أن تستفيد قطاعات مثل التمويل والرعاية الصحية والتصنيع والطاقة بشكل كبير»، على حد قوله.
أضاف أووليتا: «في مجال التمويل، ستعمل الحوسبة الكمية على تعزيز نمذجة المخاطر وكشف عمليات الاحتيال وتحسين المحفظة، من خلال معالجة كميات هائلة من البيانات بكفاءة. أما في مجال الرعاية الصحية، فستحدث ثورة في اكتشاف الأدوية والطب الشخصي، باستخدام المحاكاة الكمية لتحديد المُركبات الجديدة وتحسين العلاجات بناءً على البيانات الجينية».
وأضاف: «ستعمل تكنولوجيا الكم أيضاً على تطوير قطاع التصنيع، من خلال تحسين سلاسل التوريد وجداول الإنتاج، ما سيؤدي إلى خفض التكاليف وزيادة الكفاءة. وإضافة إلى ذلك، سيعزز التشفير الكمي الأمان في مجال الاتصالات».
تعتبر دقة المحاكاة الكمية، من السمات الرئيسة الأخرى لهذا التحول، إذ بإمكانها العمل على تحسين عملية اتخاذ القرار وإحداث اختراقات في مجالات مثل التنبؤ بالمناخ وإدارة الطاقة، بحسب المدير التنفيذي في «مركز الابتكار التكنولوجي» في أبوظبي، والذي أوضح أن الحوسبة الكمية قادرة على تحسين شبكات الطاقة، وتطوير مواد جديدة لتخزينها، ما يساعد على تعزيز كفاءة أنظمة الطاقة المتجددة.
ويرى أنه مع تطور «الاقتصاد الكمي»، تعمل الاستثمارات الكبيرة من القطاعين العام والخاص على تسريع الابتكار، وتعزيز التعاون بين الصناعات، وخلق أسواق جديدة، وبالتالي تحفيز النمو الاقتصادي. وعليه، ستكون الصناعات التي تتكيف بسرعة مع التكنولوجيا الكمية، في وضع أفضل للاستفادة من إمكاناتها التحويلية، ما يؤدي إلى مكاسب اقتصادية وإنتاجية عميقة في المجالات كافة.