في ظل الوضع الجيوسياسي الذي فرضه الرئيس الأميركي دونالد ترامب سريعا مع عودته إلى البيت الأبيض، بدأ تغيّر هائل يطرأ على تدفقات التجارة العالمية، ويفرض مقاربة جديدة على مختلف الصناعات.
ومع استمرار الظروف الجيوسياسية في التغير، باتت الشركات وقادة الأعمال بحاجة إلى تقييم شكل النمو الحالي والمستقبلي، بالنظر إلى الجغرافيا السياسية من خلال عدسة خلق القيمة، وتحويل المخاوف إلى فرص لكسب المزيد من الحصص السوقية، وفق ما دعت إليه شركة «ماكنزي» في دراسة حول الجغرافيا السياسية وتأثيراتها على التجارة العالمية والأعمال.
كان للظروف الجيوسياسية على الدوام تأثير مباشر على أعمال الشركات. ومنذ نهاية الحرب الباردة على الأقل، ظل قادة الأعمال ميالين إلى لعب دور المراقب حيال المخاوف الاقتصادية الكلية والاستراتيجية والتشغيلية. غير أن الأمر لم يعد كذلك، فقادة الأعمال اليوم باتوا ينظرون إلى التوترات الجيوسياسية باعتبارها أكبر خطر يهدد النمو الاقتصادي، وفقاً لمسح عالمي أجرته «ماكنزي» حول الظروف الاقتصادية أواخر العام الماضي.
شكل ذلك انعكاساً لاشتداد الصراعات الإقليمية والخلافات التجارية الدولية في السنوات الأخيرة، الذي وضع مرونة واستراتيجيات الشركات ولا سيما متعددة الجنسيات منها، تحت الاختبار، في وقت زادت التدخلات التجارية على مستوى العالم بمقدار 12 ضعفاً منذ عام 2010، فيما تضاعفت التعريفات الجمركية على السلع المتبادلة بين الولايات المتحدة والصين بما يصل إلى ستة أضعاف منذ عام 2017، بحسب «ماكنزي».
الحرب الروسية الأوكرانية كان لها دورها في تعقيد المشهد، إذ بموجبها أثقل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والعديد من اللاعبين الآخرين موسكو بالعقوبات، كما انسحبت العديد من الشركات من روسيا وكذلك من أوروبا واليابان والولايات المتحدة، أو قلصت عملياتها.
في الوقت نفسه، تسببت إعادة توجيه مسارات الشحن جراء أزمة البحر الأحمر التي بدأت أواخر عام 2023، ليس فقط في تكاليف إضافية وتأخيرات وتعقيدات أمنية، بل إنها حملت أيضاً موجات صدمة بعيدة المدى تتجاوز المناطق المتضررة بشكل مباشر.
وعلى نطاق أوسع، كان عدد القيود التجارية العالمية الجديدة كل عام في ازدياد مطرد، من حوالي 650 قيداً جديداً في عام 2017 إلى أكثر من 3000 في عام 2023، بحسب «ماكنزي».
تاريخياً، طالت سلاسل القيمة تحولات تدريجية، والسنوات الأخيرة ليست استثناءً. لكن منذ عام 2017، بدأ شكل هندسة الروابط بين الاقتصادات في التحول.
عملية إعادة تشكيل التجارة هذه تجري الآن بالفعل. وتشير دراسة «ماكنزي» إلى أنه منذ عام 2017، نجحت الصين وألمانيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة في تقليص المسافة الجيوسياسية لتجارتها بنسبة 4% إلى 10%، وتنويع المصادر. في الوقت نفسه، بدأت اقتصادات دول جنوب شرق آسيا والبرازيل والهند في مد تجارتها بشكل أكبر عبر الطيف الجيوسياسي، وعلى مسافات أطول.
في عام 2023، أصبحت المكسيك أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة، وبرزت فيتنام بشكل لافت عبر تعزيز تجارتها مع الصين وأميركا، في حين حوّلت الاقتصادات الأوروبية وارداتها من الطاقة بعيداً عن روسيا، ونالت واردات بعض المنتجات من الصين حظوة هائلة، مثل المركبات الكهربائية.
في غمرة هذه العناوين الرئيسة، نشأ معجم جديد بين صناع السياسات وقادة الأعمال حول العالم؛ فقد زاد استخدام مصطلحات مثل «الانفصال»، و«إزالة المخاطر»، و"إعادة التصنيع إلى الداخل”، و«التصنيع بالقرب من الداخل»، و«التصنيع إلى الخارج مع الأصدقاء»؛ وغالباً ما يكون سياق هذه المصطلحات جيوسياسياً بحتاً، وهو ما أصبح سمة طاغية على أحاديث التجارة.
يُظهر ذلك مدى إدراك الرؤساء التنفيذيين ومجالس إدارة الشركات أن التحول في النظام العالمي جارٍ، لكن بات يتحتم عليهم معرفة أن هذه التحولات الجيوسياسية لا تمثل مخاطر فحسب، بل أيضاً فرصاً يجب اغتنامها، وفق ما تدعو إليه «ماكنزي».
يميل قادة الأعمال إلى التركيز في المقام الأول على الجوانب السلبية لمثل هذه التحولات، وطرح أسئلة على غرار: أي من منتجاتنا وعملياتنا حساسة جيوسياسياً، وكيف تختلف هذه الحساسية حسب المنطقة؟ في أي نقطة نحتاج إلى تبديل الموردين؟ وكيف قد تؤثر تحديات الموافقة على تأشيرات العمالة على إنتاجيتنا في أجزاء معينة من العالم؟
بينما ترى «ماكنزي» أنه من المهم وضع خطط للمخاطر وتحسين القدرة على الصمود في مواجهة الصدمات، تؤكد على ضرورة تركيز قادة الأعمال على الفرص المتاحة لخلق القيمة المعدلة حسب المخاطر. بعبارة أخرى، «يجب عليهم التركيز على الازدهار، وليس مجرد البقاء».
تقول الدراسة: «يجب على قادة الأعمال أن يسألوا أنفسهم: هل ستكون منتجات منافسينا أكثر أو أقل تكلفة من منتجاتنا بسبب التعريفات الجديدة؟ ومتى وكيف يمكننا مواءمة أعمالنا مع تدفقات التجارة إلى ممرات جديدة؟ ولكن ما هي التحالفات الاقتصادية والأمنية التي قد تخلق لنا فرصاً للنمو أو تغيير هيكل التكاليف لدينا؟ وما هي الحوافز الصناعية التي قد تقدم لنا إمكانات نمو كبيرة؟ وكيف تتغير تكاليف رأس المال عبر المناطق الجغرافية؟ وكيف يمكننا تحسين توزيع رأس المال؟».
يمكن للنهج الاستباقي في التعامل مع الجغرافيا السياسية أن يولد قيمة، وقد حرصت العديد من فرق الإدارة والمجالس على مواءمة استراتيجياتها وقدراتها المؤسسية مع الحقائق على الأرض، عبر إنشاء وحدات استخبارات جيوسياسية للإنذار المبكر بالأحداث الناشئة، ووضع خطط استجابة لتمكين الرؤساء التنفيذيين في أوقات الأزمات، وحماية سلاسل التوريد من الصدمات الخارجية.
في المقابل، تتخذ بعض فرق القيادة المتقدمة خطوة أكبر، عبر استكشاف طرق خلق القيمة وسط الاضطرابات الجيوسياسية.
من أجل اتخاذ قرارات استثمارية أفضل واغتنام الفرص التجارية في ظل التوترات العالمية المتغيرة، تنصح “ماكنزي” قادة الأعمال بتقييم شكل النمو بالنسبة لهم ولعملائهم ومنافسيهم، وتحليل مجموعة من السيناريوهات.
فمع تغير الظروف الجيوسياسية، قد تتمكن الشركات من جذب عملاء جدد والاستحواذ على حصة سوقية أكبر. وقد تنشأ الفرص عندما تزيد التعريفات الجمركية الجديدة من تكلفة منتج منافس، أو عندما تمكن اتفاقيات التجارة الجديدة الشركات من تسويق منتجاتها لعملاء كانوا في الماضي بعيدين عن متناولها.
ويمكن لقادة الأعمال تعزيز مرونة شركاتهم عبر تقييم الدرجة التي يمكن أن تؤثر بها التحولات الجيوسياسية على فعالية تكلفة عملياتهم، بما في ذلك علاقاتهم مع الموردين، واستراتيجياتهم وقدراتهم العالمية الخاصة بالمواهب، والبنية الأساسية للتكنولوجيا.
وبما أن قادة الأعمال مبرمجون بالفعل لتقييم الديناميكيات التنافسية المتغيرة في صناعاتهم والرد عليها باستمرار، ترى «ماكنزي» أنه يتوجب عليهم أن يتنقلوا عبر الاضطرابات الجيوسياسية بنفس النهج.