في صالة سينما مزدحمة في بكين، يقف الموظفون الحكوميون لإنشاد النشيد الوطني قبل بدء عرض فيلم محلي. مشهد كهذا بات مألوفاً، ويعكس بوضوح التحوّل الذي تشهده الصين في سلوكها الاستهلاكي، حيث يتراجع الإقبال على المنتجات والعلامات التجارية الأميركية لصالح بدائل محلية، بدفع من الحرب التجارية التي أشعلها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
التصعيد الأخير في الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين سرّع هذا التحول، خصوصاً مع تنامي الدعوات الوطنية للاعتماد على المنتجات المحلية، مدفوعة بزيادة الرسوم الجمركية وتصاعد التوترات السياسية. هذا التوجه لم يعد مجرد نزعة عاطفية، بل أصبح سلوكاً اقتصادياً ملموساً تُجسّده خيارات ملايين الأسر الصينية في السوق.
فقد أصبح من الشائع استبدال السيارات الأجنبية بمركبات كهربائية صينية، والهواتف الأميركية بأخرى محلية، إلى جانب الإقبال الكثيف على الأفلام الوطنية التي تحقق إيرادات قياسية، بدعم من حملات وطنية وتشجيع جماعي على المشاهدة.
كما بدأت علامات تجارية محلية مثل «هواوي» و«أنتا» و«لوكين كوفي» و«ميشواي» تزاحم أسماء عالمية شهيرة في قطاعات مثل الإلكترونيات والملابس السريعة والمأكولات والمشروبات، مهددةً الهيمنة الأميركية التي استمرت لعقود.
وبحسب تقرير نشرته صحيفة وول ستريت جورنال، فإن قرار ترامب بفرض رسوم جمركية إضافية أدّى إلى تصعيد غير مسبوق في الضغوط التجارية. وفي أعقاب الإعلان الأميركي، أصدرت سلسلة متاجر «يونغ هوي» الصينية بياناً دعت فيه إلى استبدال المنتجات الأميركية ببدائل محلية، مشيرة إلى ضرورة «تحويل بريق صنع في الصين إلى مجرة تضيء السوق الوطنية».
على المستوى الثقافي، اتخذت السلطات الصينية خطوة رمزية إضافية بفرض قيود جديدة على واردات الأفلام الأميركية قبيل موسم الصيف السينمائي، لتقليص حضور هوليوود في البلاد. ويأتي ذلك وسط تحول واضح في ذوق الجمهور الصيني الذي بات أكثر ميلاً إلى الإنتاج المحلي.
النتائج لم تتأخر. ففي مارس الماضي، أعلنت «نايكي» عن تراجع مبيعاتها في الصين بنسبة 17%، كما انخفضت مبيعات «تسلا» بنسبة 12%. شركات كبرى أخرى مثل «بي إم دبليو»، «بورشه»، «أبل»، «ستاربكس» و«لوريال» أصدرت تحذيرات للمستثمرين بشأن تباطؤ وتيرة النمو في السوق الصينية، وهو انعكاس مباشر للتحوّل في سلوك المستهلك المحلي.
نجاح فيلم «ني زا 2» كان نقطة تحوّل رمزية. فقد نُظمّت له عروض جماعية للموظفين الحكوميين، ورافق ذلك مظاهر احتفالية دفعت بالفيلم لتجاوز إيرادات عدد من أضخم إنتاجات هوليوود. هذا التحول الثقافي يحمل بُعداً اقتصادياً أعمق، إذ تمثل الأفلام الأميركية جزءاً من تجارة الخدمات بين البلدين، إلى جانب التعليم والبرمجيات والسياحة.
رغم الأهمية الرمزية لهذا القطاع، لم يُبدِ ترامب أي تعاطف مع مخاوف استوديوهات هوليوود، حيث قال تعليقاً على القيود الصينية على الأفلام: «لقد سمعت عن أمور أسوأ من ذلك»، في موقف أظهر تجاهلاً للمصالح الثقافية الأميركية في الخارج.
لكن في تطور لاحق، نقلت الجهات المنظمة للسينما في الصين لمسؤولين أميركيين أن القيود لن تشمل أبرز الإصدارات المرتقبة، في إشارة إلى أن بعض الأعمال التجارية الناجحة مثل فيلم F1 الذي يؤدي بطولته براد بيت، قد يُسمح لها بالعرض حفاظاً على عائدات دور السينما، خاصة تلك الواقعة داخل مراكز التسوق.
منذ دخول السينما الأميركية إلى السوق الصينية عام 1994 بفيلم (The Fugitive)، كانت هوليوود تحقّق نجاحات ضخمة، توّجت بفيلم (Avengers: Endgame) الذي حقق 603 ملايين دولار في الصين عام 2019. غير أن هذا النجاح ظل مشروطاً بالرقابة الصينية، وتعرّض لتقلبات متكررة بفعل التوترات السياسية.
في عهد ترامب، تراجع عدد الأفلام الأميركية المعروضة في الصين، قبل أن تأتي جائحة كورونا لتُعمّق الفجوة، حيث توقفت واردات الأفلام الأميركية لأشهر طويلة، ما منح المحتوى المحلي فرصة ذهبية لتعزيز حضوره.
ويحذر اقتصاديون من أن استمرار الحرب التجارية قد لا يقتصر تأثيره على العلامات الأميركية فقط، بل قد يؤدي إلى انكماش أوسع في الإنفاق الاستهلاكي داخل الصين، حتى على المنتجات المحلية، بسبب مناخ عدم اليقين. ومع ذلك، لا يزال الكثير من المستهلكين يعتقدون أن التأثير على حياتهم اليومية سيبقى محدوداً.
المثير أن هذا التغير لم يعد محصوراً في الصناعات الكبرى، بل بات يُلامس تفاصيل الحياة اليومية للمستهلك الصيني. من الأجهزة المنزلية إلى ملابس الرياضة، يُسجّل المنتج المحلي حضوراً متزايداً، بينما تتراجع شهية الجمهور لمتابعة المحتوى الثقافي الأميركي الذي شكّل في وقت ما رمزاً للإعجاب والانفتاح.
وفي ظل التنافس الحاد، يبدو أن ما بدأ كأزمة تجارية تطورت لتصبح لحظة تحوّل ثقافي واقتصادي متكاملة، تعيد رسم ملامح السوق الصيني، وتفرض على الشركات الأميركية مراجعة استراتيجياتها بجدية، وسط بيئة متغيرة لا تعترف بالولاء للماركات، بل بما يعكس الهوية، ويدعم السيادة الوطنية.