خلال فترة ولايته الأولى، نفذ دونالد ترامب أجندة «أميركا أولاً» التي كان عمادها فرض تعريفات جمركية جديدة على مختلف الواردات. ومع عودته إلى البيت الأبيض في ولاية تبدأ رسمياً اليوم، يترقب العالم زيادات أخرى ربما في ساعات حكمه الأولى.
يعتزم ترامب فرض تعريفات جمركية تصل إلى 60% على الواردات من الصين و25% على السلع من دول مثل المكسيك وكندا، مدعياً أن هذه الإجراءات يمكن أن تولد وظائف إضافية، وتقلل من العجز الفيدرالي، وترفع جاذبية المنتجات المصنوعة محلياً.
لكن الأشهر المقبلة سوف تكشف ما إذا كانت استراتيجية ترامب مناورة محسوبة أم تحولاً حقيقياً نحو العزلة الاقتصادية. وفي كلتا الحالتين، فإن المخاطر عالية بالنسبة لبلاد «العم سام» كما يطلق على الولايات المتحدة، ولأقرب شركائها التجاريين، كما للوضع الجيوسياسي والاقتصادي الراهن الذي استفادت منه واشنطن لعقود عديدة.
دأب الرئيس الأميركي المنتخب على تصوير الولايات المتحدة «ضحيةً للأجانب»، واعداً بجعلهم «يدفعون الثمن». ومن خلال إجراءات متطرفة، منها الترحيل الجماعي والحمائية التجارية، يرى أن بإمكانه تصحيح الوضع.
لكن هذه السياسات، وعلى عكس ما تشتهيه سفن ترامب، من شأنها أن تصيب الاقتصاد الأميركي برصاصة في القدم، وتلحق الضرر بشكل خاص بقطاعي التصنيع والزراعة.
حجج ترامب لرفع التعريفات الجمركية تتناقض والإجماع الاقتصادي السائد، حيث تظهر التحليلات المتخصصة كيف ستضر الرسوم الجمركية، ليس بشركاء أميركا التجاريين فحسب، بل أيضاً بالاقتصاد الأميركي نفسه.
بحسب المؤسسة البحثية «بروكينغز» (brookings)، فإن استراتيجية ترامب التجارية تعكس نظرة متجذرة في مذهب التجارة منذ القرن التاسع عشر، تقوم على الحمائية والاستخدام العدواني للتعريفات الجمركية.
وفق هذا المنظور، يرى ترامب أن التعريفات الجمركية هي أدوات متعددة الأغراض: في بعض الأحيان هي وسيلة لتحقيق غاية ما، كالتفاوض لإبرام صفقة، وفي أوقات أخرى ينظر إليها كغاية في حد ذاتها، لتشجيع إعادة التصنيع الأميركي إلى الداخل وتوليد الإيرادات لتعويض التخفيضات الضريبية والإنفاق.
بموجب هذا النهج، يُفترض أن التعريفات الجمركية «غير مكلفة»، ولا تحمل أي آثار سلبية على المستهلكين المحليين (من خلال ارتفاع الأسعار) أو الشركات (من خلال زيادة تكلفة المدخلات وتعطيل سلاسل التوريد).
لكن في الواقع، من شأن العديد من السياسات التي يروج لها ترامب أن تؤدي إلى تأثيرات معاكسة، وفقاً لبحث مفصل أجراه معهد بترسون للسياسات الاقتصادية الدولية (PIIE).
يؤكد البحث أن تدابير على غرار ترحيل ملايين الأشخاص من الولايات المتحدة، وفرض تعريفات جمركية أكثر صرامة، من شأنها أن تؤدي إلى تقليص الدخل الوطني الأميركي، وتراجع معدلات التشغيل، وارتفاع معدلات التضخم، ما سيحدث ضرراً قد يستمر حتى عام 2040.
وخلافاً لشعار ترامب «أميركا أولا»، فإن هذه السياسات من شأنها أن تلحق الضرر بالاقتصاد الأميركي أكثر من أي اقتصاد آخر في العالم، خاصة القطاعات المعرضة للتجارة مثل التصنيع والزراعة. وفي بعض الحالات، قد تتمتع بلدان أخرى بنمو اقتصادي أقوى من أي وقت مضى بعد تلقي تدفقات رأس المال الخارجة من الولايات المتحدة.
يُرجح معهد «بروكينغز» أن تفرض إدارة ترامب الجديدة تعريفة بنسبة 10% على الصين، وهي أقل وطأة من 60% التي هدّد بها سابقاً. ويتوقع أن يقتصر رد الفعل الأولي للصين على خفض قيمة اليوان، وهو ما قد يعوض فعلياً آثار التعريفات الجمركية على السلع التي تصدرها. هذا التكتيك استخدمته الصين بفعالية خلال فترة ولاية ترامب الأولى.
ونظراً لاستعداد الصين لعودة ترامب، قد تلجأ إلى اتخاذ موقف أكثر حزماً حيال رسوم أكثر عدوانية. وقد تشهد الحرب التجارية في ظل هذه الظروف نشر الصين لكامل نطاق أدواتها الانتقامية ضد المصالح الأميركية.
فبالإضافة إلى فرض التعريفات الجمركية المضادة، قد تزيد الصين من استخدامها لقيود التصدير على المعادن الحيوية، واستخدام «قائمة الكيانات غير الموثوقة» الخاصة بها، مما قد يؤثر في التجارة العالمية في أي مكان تكون فيه الولايات المتحدة طرفاً، وربما تسبب ألماً اقتصادياً كبيراً دون إشعال حرب تجارية شاملة.
بالنسبة للمكسيك وكندا، يبدو أن أملهما هو في أن تكون تهديدات ترامب مجرد حيل تفاوضية، يمكن تقديم تنازلات بموجبها. ومن شأن فرض تعريفة جمركية بنسبة 25% على السلع جميعها التي تعبر الحدود، أن يخلف آثاراً عميقة على الأطراف جميعها.
إلى جانب الصين وكندا والمكسيك، سيلحق فرض رسوم جمركية الضرر باقتصاد كل من ألمانيا واليابان، وجميعهم شركاء تجاريون للولايات المتحدة؛ إذ يرجح تقرير معهد «بترسون» انخفاض الناتج المحلي الإجمالي نسبة إلى خطوط الأساس الخاصة بتلك الدول حتى عام 2040.
من جهتها، دافعت المؤسسة البحثية «جي آي إس» (Geopolitical Intelligence Services) في أحد تقاريرها، عن أهمية الواردات، موضحة أنها تسمح بسد فجوات العرض، فيما تعمل المنافسة من المنتجين الدوليين على إبقاء الأسعار المحلية تحت السيطرة، ما يحمي القوة الشرائية للمستهلك.
فرض الرسوم الجمركية يعطل هذا التوازن، فالرسوم ترفع أسعار السلع المحمية، ما يؤثر بشكل مباشر على المستهلكين.
يؤدي ارتفاع الأسعار هذا إلى إضعاف الاستهلاك؛ ونتيجة لذلك، يتم تفويت فرص التجارة المفيدة للطرفين، ما يؤدي بالتالي إلى انكماش الاقتصاد الكلي.
وتؤثر الرسوم الجمركية أيضاً على السلع الوسيطة، مثل الصلب والألمنيوم، مع عواقب غير مقصودة على الصناعات التصديرية. فبدلاً من خلق فرص العمل، يمكن أن تدمر هذه الرسوم الجمركية تلك الصناعات.
يظهر بحث أجرته وحدة الدراسات التابعة لبنك «آي إن جي» (ING) الهولندي، أنه إذا تم تمرير التعريفات الجمركية الجديدة بالكامل، فقد تؤدي إلى زيادة التضخم، وتكلف المستهلكين الأميركيين ما يصل إلى 2400 دولار للفرد سنوياً.
قد يكون لهذه الزيادة المحتملة في تكاليف المستهلك والتضخم آثار اقتصادية واسعة النطاق، خاصة في اقتصاد يمثل فيه الإنفاق الاستهلاكي 70% من إجمالي النشاط.
وفي حين يمكن للتعريفات الجمركية أن تولد إيرادات كبيرة، فإن تأثيراتها الاقتصادية الأوسع والتحولات الناتجة في سلوك المستهلك تحد من فعاليتها كإستراتيجية مالية طويلة الأجل.
سياسات ترامب أحادية الجانب، وإن كانت قد تسفر عن بعض التنازلات الفورية، فإنها تخاطر بعواقب طويلة الأمد بما في ذلك تنفير الحلفاء وتسريع تفتت شبكات التجارة العالمية، وبالتالي تآكل النفوذ الأميركي في الاقتصاد العالمي.