بينما تتراجع الهيمنة الأميركية على الساحة العالمية، يواصل الرئيس الأميركي دونالد ترامب انتهاج انعزالية اقتصادية وسياسية قصيرة النظر، ما قد يُضعف قوة الولايات المتحدة، ويشوّش على القيم التي طالما مثّلتها.
ووفقاً لمقال نشرته المجلة الأسبوعية الصينية «ياهزو زوكان»، لم يتبقَّ أمام بكين سوى أن تلتقط راية التعددية.
فعلى خلاف الرؤية الأميركية التقليدية للقيادة العالمية، يفضل ترامب استخدام أدوات الضغط الاقتصادي والتهديد السياسي، مستنداً إلى شعار «أميركا أولاً»، لكنه يفتقر إلى رؤية شاملة للملفات الدولية، ما يجعله يركز على مكاسب فورية، على حساب الاستراتيجية الطويلة الأمد.
في الأشهر الأخيرة، أطلق الرئيس الأميركي تصريحات مثيرة للجدل، منها التهديد بضم كندا، واستعادة السيطرة على قناة بنما، وحتى الاستحواذ على غرينلاند، ورغم ما قد يبدو من غرابة في هذه التصريحات، إلا أنها تعبّر عن توجه فعلي، ينذر بإضعاف البيئة الدبلوماسية العالمية.
تُظهر سياسة ترامب نزعة انكفائية تتعارض تماماً مع الطموح الصيني للتوسع الخارجي، فبينما يسعى الرئيس شي جين بينغ إلى إعادة إحياء «الأمة الصينية» عالمياً، يعتمد في سياسته الخارجية على مبادرة «الحزام والطريق» لتوسيع التحالفات، وتعزيز التعاون الدولي عبر اتفاقات ثنائية ومتعددة الأطراف.
في المقابل، يواصل ترامب، كما في ولايته الأولى، الدفع نحو فك الارتباط وتقويض التحالفات، بالنسبة له، لا فرق بين الديمقراطيات والديكتاتوريات، ولا مكان لتحالفات قائمة على القيم أو المبادئ، بل فقط على أساس مصلحة أميركا الآنية.
فعلى سبيل المثال، طالب دول «الناتو» بزيادة إنفاقها الدفاعي تحت طائلة دفع رسوم حماية، وفرض رسوماً جمركية جديدة لتعزيز مداخيل الولايات المتحدة، كما يُتوقع أن ينسحب من منظمات واتفاقات دولية أخرى خلال ولايته.
أما الرئيس الصيني، فقد عبّر في خطابه بمناسبة العام الجديد عن فخره بالدور الصيني المتنامي عالمياً، مؤكداً أن بلاده تسعى إلى «تعزيز الحوكمة العالمية، والعمل من أجل السلام والاستقرار عبر لقاءات ثنائية ومتعددة الأطراف».
ينظر ترامب إلى الصين بوصفها خصماً اقتصادياً رئيساً، ويستعد لفرض مزيد من الضغوط والعقوبات عليها، لكن ذلك يتم من منطلق مصالح وطنية ضيقة لا تستند إلى أطر أيديولوجية شاملة.
ويؤدي انسحابه من المنظمات والاتفاقات الدولية إلى تفكيك الدور الأميركي التقليدي كضامن للنظام العالمي، كما يدفع حلفاءه لتحمّل أعباء أمنية ومالية متزايدة، ما يزيد شعورهم بالقلق إزاء التزام واشنطن بتحالفاتها.
يعتمد ترامب على سياسة حمائية صارمة، تعكس توجهاً رجعياً مقارنة بالمرحلة التي تلت الحرب العالمية الثانية، حيث شهد العالم تقسيماً رأسياً للعمل سمح للولايات المتحدة بتعزيز مكانتها الاقتصادية وتحالفاتها السياسية، لكن الصين، خلال العقود الأربعة الماضية، استفادت من هذه العولمة لتنهض اقتصادياً، وتصبح منافساً حقيقياً لواشنطن.
ومن خلال ربط سوقها الداخلي بالأسواق العالمية، واستقطاب الصناعات الغربية، اكتسبت بكين خبرات تقنية وتنظيمية مكّنتها من تحقيق قفزة تنموية كبرى، واليوم تسعى الصين إلى توسيع نفوذها من خلال مشاريع البنية التحتية العابرة للحدود وإنشاء منظمات إقليمية ودولية بديلة.
رغم محاولات واشنطن خنق قطاع التكنولوجيا الصيني، تواصل بكين التقدّم في مجالات الذكاء الاصطناعي والتقنيات الفضائية والطاقة النظيفة، أما عسكرياً، فهي تقترب من امتلاك قدرة عالمية، ما يعزز موقعها كقوة عظمى صاعدة.
وبفضل قدراتها الاقتصادية والبنية التحتية، استطاعت الصين أن توطد علاقاتها مع دول الجنوب، ما يجعلها أقل عرضة لمحاولات العزل أو الحصار.
مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، تبدو السياسة الأميركية متمحورة حول الاقتصاد والمصالح الداخلية، فيما تتراجع القيم الديمقراطية والخطاب الأيديولوجي، وهذه المقاربة تمنح الصين فرصة ذهبية لتوسيع نفوذها وتشكيل تحالفات جديدة.
ففي ظل انزعاج دول جنوب شرق آسيا وأميركا اللاتينية، وحتى بعض الحلفاء الأوروبيين، من النهج الترامبي القائم على الإملاءات، قد تنجذب هذه الدول تدريجياً نحو بكين، ما يُضعف مكانة الولايات المتحدة على المدى الطويل.
وإذا مضى ترامب في مشروع «أميركا أولاً» وسياسته الانعزالية، فقد تخسر الولايات المتحدة ما تبقى من صورتها كقوة عالمية منفتحة، فيما تواصل الصين صياغة نظام عالمي جديد بطابعها الخاص.